
أحمد الحمادي
يتعرض الدولار الأمريكي لضغوط متزايدة هي الأعنف منذ عقود، مسجلاً أسوأ أداء له منذ عام 1989، ليس فقط بسبب حالة عدم اليقين والقلق التي تثيرها السياسات الاقتصادية غير التقليدية لإدارة الرئيس “دونالد ترامب”، بل أيضاً بسبب استغلال الصين لهذه اللحظة من الارتباك العالمي لتكثيف جهودها الرامية إلى تعزيز الاستخدام الدولي لعملتها، اليوان.
وبينما يواجه الدولار تراجعاً ملحوظاً، تبرز مخاطر أشد عمقاً تتعلق بمستقبله، وعلى رأسها التهديد المحتمل بانسحاب الولايات المتحدة من صندوق النقد الدولي، وهي خطوة، إن تمت، قد تمثل “صدمة تاريخية” لمكانة العملة الأمريكية.
فقد أدت الحواجز التجارية الشاملة، وتصدع التحالفات، والهجوم على المؤسسات المالية الأمريكية، إلى تراجع مؤشر الدولار الرئيسي بنسبة 8.4% منذ بداية العام (حتى 29 أبريل 2025)، وفق متابعات بقش. هذا الضعف فاقم خسائر المستثمرين الأجانب في الأصول الأمريكية وقوض جاذبية الدولار وسندات الخزانة كملاذات آمنة يمكن التنبؤ بها.
الصين تستغل الفرصة: دفعة قوية لليوان العالمي
في خضم هذا المشهد المضطرب، لا تقف الصين موقف المتفرج، فبينما كان الرئيس الصيني “تشي جين بينغ” يجول في جنوب شرق آسيا هذا الشهر لتوثيق العلاقات في مواجهة الرسوم الجمركية الأمريكية، كان بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) يعمل بنشاط لاغتنام لحظة الارتباك التجاري العالمي لتعزيز استخدام اليوان.
لن يطيح اليوان بالدولار في المدى القريب، لكن مع وصول مدفوعات اليوان عبر الحدود إلى مستوى قياسي في مارس الماضي، يرى المحللون أن هناك رغبة متجددة في اليوان كبديل، حيث تهز سياسات الرسوم الجمركية الأمريكية العدوانية الثقة في العملة الأمريكية والأصول المقومة بها.
وتتخذ الصين خطوات عملية وملموسة في هذا الصدد على رأسها توسيع شبكات الدفع، حيث عززت شركة “يونيون باي” (UnionPay) التابعة لبنك الشعب الصيني شبكة مدفوعاتها في فيتنام و كمبوديا ودول أخرى (تغطي الآن أكثر من 30 دولة)، خاصة عبر تسهيل مدفوعات رمز الاستجابة السريعة (QR code) للسياح والشركات الصغيرة، مما يقلل الاعتماد المباشر على الدولار في المعاملات اليومية.
تقوم بكين أيضاً بتعزيز اتفاقيات المبادلة، وقد وصلت قيمة اتفاقيات مبادلة اليوان الخارجي التي أبرمها بنك الشعب الصيني مع بنوك مركزية أخرى إلى مستوى قياسي بلغ 4.3 تريليون يوان (حوالي 591 مليار دولار) في فبراير الماضي. وتُستخدم هذه الخطوط لتسهيل التجارة والاستثمار الثنائي بالعملات المحلية، كما حدث مؤخراً مع تجديد الأرجنتين لخط مبادلة بقيمة 5 مليارات دولار، وسعي باكستان لتوسيع خط المبادلة الخاص بها.
تطوير البنية التحتية كان أيضاً ضمن أبرز الأنشطة، وبالفعل أعلن البنك المركزي الصيني عن خطوات لتعزيز نظامه المحلي للدفع عبر الحدود باليوان (CIPS)، والمضي قدماً في تطبيق تقنية البلوك تشين التي يعتمد عليها اليوان الرقمي، بهدف بناء هيكل مالي مستقل عن النظام الغربي الذي تهيمن عليه البنوك الأمريكية، وذلك إلى جانب التوجه نحو التسعير باليوان، خصوصاً مع تزايد الجهود لتشجيع تسعير وتداول السلع الأساسية، من النفط إلى الذهب، باليوان الصيني.
لماذا الآن؟ الفرصة السانحة في ظل السياسات الأمريكية
يرى مسؤولون ومحللون صينيون أن السياسات الأمريكية نفسها هي التي خلقت هذه الفرصة لليوان. وقال “إي يونغجيان”، نائب المدير العام لقسم الأبحاث في بنك الاتصالات الصيني، في ندوة حول تدويل اليوان: “لقد ألقت الولايات المتحدة بالتعريفات الجمركية كسلاح، مما ألقى بظلال من الشك على سلامة الأصول الأمريكية، وقوض الثقة في الدولار، وهز مكانته العالمية”. وأضاف أن هذا “جعل أصول اليوان أكثر جاذبية، وسيساعد على توسيع نطاق استخدام العملة الصينية عبر الحدود”.
كما صرح “لو لي”، نائب محافظ بنك الشعب الصيني، بأن الشركات الصينية التي توسع استثماراتها الخارجية تطالب بأنظمة مالية أفضل لمواجهة تأثير “الأحادية والحمائية والتعريفات الجمركية المرتفعة التي تؤثر على سلسلة التوريد العالمية”.
ويُنظر إلى الدفع باليوان كجزء من بناء نظام بديل أكثر استقراراً يمكن الاعتماد عليه، بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث رصد بقش تصريحاً لـ “تشو فنغ جيه”، الباحث في أعلى هيئة تخطيط صينية (NDRC)، بأنه إذا دخلت الولايات المتحدة في ركود واكتسبت الصين اليد العليا في التنافس الحالي – سيناريو “صعود الشرق وتراجع الغرب” – فإن “بإمكان الصين كسر النظام النقدي الدولي القديم”.
الانسحاب من صندوق النقد: الضربة القاضية المحتملة للدولار؟
في هذا السياق من الضغوط المتزايدة والسعي الصيني النشط، يكتسب مقترح انسحاب الولايات المتحدة من صندوق النقد الدولي أهمية مضاعفة وخطورة أكبر. فكما أوضح وكيل وزارة الخزانة السابق “تيد ترومان”، فإن مثل هذه الخطوة لن تؤدي فقط إلى مزيد من تآكل الثقة، بل ستضرب في الصميم الآلية التي تدعم دور الدولار عالمياً.
فالصندوق هو المستخدم الرئيسي للدولار في عملياته، مما يدفع الدول لتكديس احتياطياتها به، واستبعاد الدولار من استخدامات الصندوق سيجعله أقل جاذبية كعملة احتياطية.
الأخطر من ذلك، هو التأثير المحتمل على سلة حقوق السحب الخاصة (SDR) التابعة للصندوق، فخروج الولايات المتحدة (التي تزن عملتها 43% حالياً) سيؤدي حتماً إلى زيادة كبيرة في وزن العملات الأخرى، وعلى رأسها اليورو (29% حالياً) واليوان الصيني (12% حالياً).
هذه الزيادة في وزن اليوان، مدعومة بالجهود الصينية الحثيثة لتدويله، قد تمنح العملة الصينية دفعة هائلة نحو العالمية، حتى مع استمرار القيود على حركة رأس المال التي تحد من جاذبيتها حالياً.
بينما لا يزال الدولار يهيمن بوضوح على المدفوعات العالمية (حوالي 50% عبر سويفت) وتمويل التجارة (أكثر من 80%)، واليوان لا يمثل سوى 4% من المدفوعات، فإن التهديد بانسحاب الولايات المتحدة من مؤسسة كصندوق النقد قد يحول التآكل التدريجي في هيمنة الدولار إلى تراجع حاد ومفاجئ. قد لا يكون اليوان هو المستفيد المباشر الوحيد (اليورو مرشح قوي أيضاً)، لكن الزخم سيكون في صالح العملات البديلة بشكل عام.
كما تدرك الصين أن تدويل اليوان عملية طويلة الأمد وتعتمد على أكثر من مجرد ضعف الدولار، لذا، تعمل على جبهات متعددة، مثل تعزيز التجارة مع الجنوب العالمي، وتطوير بنية تحتية مالية بديلة (CIPS، اليوان الرقمي)، وتوسيع اتفاقيات المبادلة، والسعي لتسعير السلع بعملتها. فضعف الدولار والشكوك حول القيادة الأمريكية يوفران بيئة مواتية لتسريع هذه الاستراتيجية.
بغض النظر عما إذا كان سيتم تنفيذ الانسحاب من صندوق النقد أم لا، فإن مجرد طرح الفكرة واستمرار حالة عدم اليقين بشأن السياسات التجارية والمالية الأمريكية، بالتزامن مع الجهود الصينية النشطة لتقديم بديل، يعني أن النظام النقدي والمالي العالمي مقبل على فترة من التقلبات المتزايدة وإعادة التموضع الاستراتيجي بين القوى الكبرى، وستظل الأسواق تراقب عن كثب أي مؤشرات حول نوايا واشنطن الحقيقية تجاه النظام متعدد الأطراف ومستقبل الدولار.