فرنسا بلا ميزانية وأمريكا بلا توازن.. تصنيف “ذا إيكونوميست” يقدّم الأرقام على السياسة

الاقتصاد العالمي | بقش
جاءت نتائج تصنيف مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية لعام 2025 لتضع فرنسا، الغارقة في اضطراب سياسي ومالي حاد، في مرتبة متقدمة نسبياً، متفوقةً على اقتصادين يُعدّان من الأعمدة التقليدية للنظام الاقتصادي الدولي، هما الولايات المتحدة وألمانيا.
هذا التصنيف، الذي أثار دهشة الأوساط الإعلامية والاقتصادية الفرنسية، فتح باب تحليل المعايير الحقيقية للقوة الاقتصادية، وحدود قراءة الأرقام بمعزل عن السياق السياسي والمالي الأشمل.
البرتغال.. الاقتصاد الأفضل هذا العام
توّجت “ذا إيكونوميست” البرتغال بلقب “اقتصاد العام 2025″، مستندةً إلى مجموعة مؤشرات تشمل النمو، والتضخم، والتوظيف، وأداء سوق الأوراق المالية، ضمن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ووفق اطلاع “بقش” على ما نشرته المجلة، فإن البرتغال حققت مزيجاً نادراً من نمو قوي، وتضخم منخفض، وسوق تنافسية نشطة، ما منحها الصدارة متقدمةً على إسبانيا التي حملت هذا اللقب الرمزي في العام 2024.
لكن اللافت لم يكن اسم الفائز، بل ما تلاه في الترتيب، حيث احتلت فرنسا المركز الحادي عشر، متقدمة على الولايات المتحدة (المركز 17) وألمانيا (المركز 20)، رغم أن باريس تستقبل عام 2026 بلا ميزانية معتمدة، ودين عام بلغ 117.4% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى سلسلة تخفيضات في تصنيفها الائتماني من وكالات التصنيف الدولية.
فرنسا: اقتصاد أفضل من الصورة السياسية
برّرت المجلة تصنيف فرنسا أساساً بعاملين،
أولهما معدل التضخم، الذي يُعد من بين الأدنى في الاتحاد الأوروبي، ما منح الاقتصاد الفرنسي قدراً من الاستقرار السعري في وقت تعاني فيه اقتصادات كبرى من ضغوط تضخمية متواصلة.
والعامل الثاني هو النمو الاقتصادي، الذي فاق التوقعات وبلغ نحو 0.9% في عام 2025، حسب المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية.
وجاء هذا التقييم بعد أقل من 24 ساعة على اعتراف رئيس الحكومة سيبستيان ليكورنو بفشله في تمرير ميزانية العام المقبل، ما جعل التصنيف يبدو، للوهلة الأولى، متناقضاً مع الواقع السياسي والمالي.
غير أن عدداً من وسائل الإعلام الفرنسية عاد ليصف النتيجة بـ”الإنجاز النسبي” في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.
الاقتصاد الأمريكي غير متوازن
في المقابل، تعيش ألمانيا أزمة صناعية عميقة، يُتوقع أن تُترجم إلى نمو ضعيف لا يتجاوز 0.2% في 2025، بعد عامين من الركود.
وتؤكد هذه الأزمة، وفق خبراء تتبَّع بقش تقديراتهم، على هشاشة النموذج الصناعي الألماني في مواجهة التحولات الجيوسياسية وتراجع الطلب الصيني.
أما الولايات المتحدة، فعلى الرغم من تسجيلها نمواً اقتصادياً قوياً، فإنها –حسب الإيكونوميست– تدفع ثمن السياسات الحمائية التي تبناها الرئيس دونالد ترامب. ويُضاف إلى ذلك استمرار التضخم وظهور اختلالات بنيوية، أبرزها اعتماد الاقتصاد الأميركي بشكل شبه كامل على قطاع التكنولوجيا.
وفي هذا السياق، قال مدير الأبحاث في معهد ريكسكود، أوليفييه ريدوليس، إن تصنيف المجلة لا يأخذ في الاعتبار الوضع المالي العام للدول، كما يقتصر على 30 دولة فقط من أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
واعتبر أن الاقتصاد الأمريكي بات “غير متوازن”، مع مؤشرات مقلقة في سوق العمل، حيث بلغ معدل البطالة أعلى مستوى له منذ أربع سنوات.
من جهته، رأى مدير معهد الإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي، إريك دور، أن أرقام الاستهلاك والاستثمار ليست باهرة، لكن لم يحدث انهيار، وهو توصيف يعكس حالة الصمود أكثر من الازدهار. وأشار وفق قراءة بقش إلى أن الانتعاش النسبي في الاستثمار التجاري منذ الصيف أسهم في دعم النمو مع نهاية العام.
غير أن ريدوليس وضع هذا التحسن في سياقه، موضحاً أن حالة عدم اليقين ليست جديدة، بل تمتد منذ جائحة كورونا، مروراً بالحرب الروسية الأوكرانية والأزمة التضخمية. ووفقاً له، فإن تعافي الاستثمار يعود جزئياً إلى “انتعاش تقني” فرضته الحاجة إلى استبدال الآلات والمعدات بعد سنوات من التأجيل.
إيرباص.. العمود الفقري للصمود الفرنسي
عنصر آخر حاسم في متانة الاقتصاد الفرنسي هو صناعة الطيران، وتحديداً شركة إيرباص. فقد أسهمت الشركة في الحفاظ على تماسك الاقتصاد الفرنسي، وكانت من أبرز محركات النمو الأوروبي في الربع الثالث من العام، بنسبة بلغت 0.5%.
ويُعزى هذا الأداء إلى طفرة في صادرات الطيران بين شهري يوليو وسبتمبر، ما عوّض جزئياً ضعف قطاعات صناعية أخرى.
وفي ما يخص تراجع ألمانيا في التصنيف، يرى إريك دور أن برلين تأثرت أكثر من باريس بالسياسات الحمائية الأمريكية وبانخفاض الطلب الصيني، معتبراً أن ذلك خبر سيئ لفرنسا على المدى الهيكلي، لأنه يكشف في الوقت ذاته تراجع القاعدة الصناعية الفرنسية واعتمادها المتزايد على قطاعات محدودة.
هذا ويكشف تصنيف “ذا إيكونوميست” لعام 2025 أن القوة الاقتصادية لم تعد تُقاس فقط بالميزانيات المتوازنة أو الاستقرار السياسي، بل بقدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات والحفاظ على مؤشرات أساسية مستقرة، مثل التضخم والنمو النسبي.
غير أن هذا التفوق النسبي لفرنسا يبقى هشاً، ما دام لا يعالج جذور أزمتها المالية والدين العام، ولا يعوض غياب رؤية سياسية مستقرة، ما يعني أنه تفوق بالأرقام، وليس بالضرورة تفوقاً بالأسس، وقد لا يصمد طويلاً إذا لم يتحول الصمود الحالي إلى إصلاح هيكلي حقيقي.


