فقاعة الذكاء الاصطناعي… الحماس المفرط يهدد قطاع التكنولوجيا مع طفرة غير مسبوقة في أسواق المال الأمريكية

تقارير | بقش
يشهد الاقتصاد الأمريكي حالياً واحدة من أكثر موجات الحماس الاستثماري اتساعاً منذ بداية الألفية الجديدة، مدفوعة بالصعود الصاروخي لتقنيات الذكاء الاصطناعي. فقد أصبحت هذه التكنولوجيا مركز الثقل الجديد في الأسواق المالية، وأعادت رسم خريطة توزيع القيمة السوقية داخل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500»، حيث تهيمن سبع شركات تكنولوجية عملاقة على 36% من إجمالي قيمته السوقية — وهي أعلى نسبة في تاريخه الحديث.
أسهم هذه الشركات تضاعفت قيمتها خلال عامين فقط، بعد أن قفزت بمعدل 60% من أدنى مستوياتها هذا العام وفق متابعات بقش. هذا الارتفاع لم يكن مجرد انتعاش تقني في الأسواق، بل تحوّل إلى محرك أساسي للنمو الاقتصادي.
فبينما لا يزال الإنفاق الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي يشكل نحو 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، إلا أن تأثيره على وتيرة التوسع الاقتصادي كان واضحاً، حيث يُقدّر أن نحو ثلث النمو السنوي، البالغ قرابة 4% خلال الربعين الماضيين، جاء من هذا القطاع وحده.
هذا التأثير لا يقتصر على وادي السيليكون، فالتوسع في بناء مراكز البيانات والبنية التحتية السحابية، الذي ارتفع بمقدار أربعة أضعاف منذ عام 2020، ضاعف نشاط قطاع البناء والصناعات المرتبطة به، من مصانع رقائق الحوسبة المتقدمة إلى شبكات الطاقة التي تغذيها. كما أن نمو الاستهلاك المحلي استفاد هو الآخر من «تأثير الثروة» الناتج عن مكاسب الأسهم القياسية، وهو ما عزز الطلب المحلي وأعطى دفعة إضافية للناتج المحلي الإجمالي.
تشابه مقلق مع بدايات فقاعة الإنترنت
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان فترة نهاية التسعينيات وبداية الألفية، حين شهدت الولايات المتحدة طفرة ضخمة في أسهم شركات الإنترنت، قبل أن تنفجر الفقاعة في عام 2000 مسببةً خسائر هائلة للأسواق والمستثمرين. في ذلك الوقت، تدافع المستثمرون إلى تمويل شركات ناشئة تَعِد بمستقبل رقمي، رغم أن العديد منها لم يكن يملك نماذج أعمال واضحة أو إيرادات حقيقية.
الآن، ورغم أن شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى -مثل «نفيديا» و«مايكروسوفت» و«ميتا»- تتمتع بإيرادات هائلة وأرباح حقيقية، إلا أن موجة المضاربات الكبرى لا تدور حولها فقط، بل تمتد إلى عشرات الشركات الناشئة التي لا تملك بعد منتجات نهائية أو تدفقات نقدية إيجابية.
هذه الشركات تشهد ارتفاعات مذهلة في قيمتها السوقية، على غرار شركة «أوكلو» العاملة في مجال المفاعلات النووية الصغيرة، والتي قفزت قيمتها بنسبة 1200% خلال عام واحد حسب اطلاع بقش رغم أنها لا تتوقع أي إيرادات قبل عام 2027.
هذا النوع من المضاربات يعيد تذكير المراقبين بظواهر الطرح العام لشركات الإنترنت في عامي 1999 و2000، حين كانت الشركات تدخل البورصة بقيمة مليارية من دون سجل إيرادات أو ربحية. آنذاك، عندما تبين أن العوائد لا توازي التوقعات، انهارت الأسواق بشكل سريع وأحدثت سلسلة إفلاسات واسعة النطاق.
استثمارات ضخمة قد تتحول إلى عبء
من أبرز المؤشرات على سخونة السوق الحالية، ما حدث مع شركة «أوراكل» في 10 سبتمبر، حين قفز سهمها بنسبة 36% في يوم واحد بعد إعلان عن عقود سحابية مرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي وفق مراجعة بقش. التغير في القيمة السوقية خلال ذلك اليوم بلغ 85 ضعفاً لمتوسط حجم التداول اليومي للسهم، وهي قفزة استثنائية لا تحدث إلا في حالات الذروة المضاربية.
تحقيق هذه الطموحات يتطلب التزامات مالية هائلة. فشركة أوراكل، لكي تفي بتعهداتها الجديدة، مطالبة بزيادة إنفاقها الرأسمالي بنحو 100 مليار دولار خلال العامين المقبلين، أي بمعدل نمو سنوي يبلغ 47%، في وقت تحولت فيه تدفقاتها النقدية الحرة إلى السالب للمرة الأولى منذ عام 2011.
هذا النمط من الإنفاق الفائق يعيد إلى الأذهان استثمارات شركات الإنترنت في البنية التحتية الرقمية قبل عقدين، والتي تحولت لاحقًا إلى عبء مالي ضخم عندما انهارت التوقعات.
وبينما تراهن الشركات الكبرى على أن الذكاء الاصطناعي سيعيد تشكيل قطاعات العمل والإنتاج، فإن أي تباطؤ في العوائد الفعلية أو تأخر في تبني السوق لهذه التقنيات قد يخلق فجوة خطيرة بين التوقعات والواقع، تماماً كما حدث في فقاعة الإنترنت حين لم تتمكن الشركات من تحقيق الإيرادات التي بُنيت عليها تقييماتها الفلكية.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أسهم… بل ركيزة اقتصادية
يختلف وضع فقاعة الذكاء الاصطناعي المحتملة عن فقاعة الإنترنت في جانب مهم: حجم التأثير المتشعب في الاقتصاد الحقيقي. فالتقنيات الجديدة لا تقتصر على جذب رؤوس الأموال المضاربة، بل أصبحت تمس سلاسل الإنتاج، والبنية التحتية للطاقة، والتعليم، والتوظيف.
الإنفاق على مراكز البيانات وحده أصبح محركاً أساسياً لقطاع البناء، وقطاع الطاقة الكهربائية يشهد ضغوطاً هائلة لتلبية الطلب المتزايد على تشغيل تلك المنشآت.
هذا يعني أن أي تباطؤ أو انهيار في قطاع الذكاء الاصطناعي لن ينعكس فقط على مؤشرات الأسهم، بل سيتردد صداه في الاقتصاد الحقيقي. سيتأثر قطاع البناء، وستتراجع الطلبات على المعدات، وستتأثر شبكات الطاقة التي توسعت لتلبية احتياجات الشركات التكنولوجية العملاقة، كما أن موجة التوظيف في مجالات تحليل البيانات والهندسة المتقدمة قد تتباطأ، مما ينعكس على سوق العمل الأوسع.
تاريخياً، عندما انفجرت فقاعة الإنترنت، كان الاقتصاد الأمريكي لا يزال يتمتع بديناميكيات تسمح له بامتصاص الصدمة: تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة، وازدهار سوق العقارات، وطفرة في الاستهلاك.
أما اليوم، فإن الوضع النقدي مختلف، مع معدلات فائدة مرتفعة نسبياً، وتضخم ما زال مقلقاً، وهو ما قد يجعل أي فقاعة أكثر خطورة على الاستقرار الاقتصادي العام.
مؤشرات فنية وأساسية تنذر بالخطر
مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» ارتفع بنسبة 73% منذ بداية عام 2023، مدفوعاً بالأداء القوي للشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. لكن مؤشرات التقييم المالي بدأت تقترب من مستويات غير مريحة.
نسبة السعر إلى الأرباح وصلت إلى 28، ومؤشر «كايب» المعدل للتضخم بلغ مستويات تاريخية مرتفعة، كما وصل «مؤشر بافيت»، الذي يقيس القيمة السوقية الإجمالية للأسهم الأمريكية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، إلى أعلى مستوياته على الإطلاق.
هذه المؤشرات لا تعني بالضرورة أن الانهيار وشيك، لكنها تشير إلى درجة عالية من التشبّع السعري في السوق، وأن أي تصحيح قد يكون مؤلمًا للغاية. تاريخياً، كانت هذه المؤشرات تسبق فترات ركود أو تراجعات حادة في الأسواق، مثلما حدث في عامي 2000 و2008.
إضافة إلى ذلك، فإن جزءاً كبيراً من هذه المكاسب مركّز في حفنة من الشركات العملاقة. أي تراجع في تقييم هذه الشركات أو تباطؤ في نمو إيراداتها سيؤثر مباشرة على المؤشر بأكمله، ما يجعل الاقتصاد الأمريكي أكثر عرضة لتقلبات الأسواق المالية.
إذا انفجرت الفقاعة… الصدى سيكون واسعا
في حال تراجع الحماس المفرط للذكاء الاصطناعي أو واجهت الشركات الكبرى صعوبات في تحقيق العوائد المتوقعة، فإن التأثير لن يكون محصوراً في البورصة، فنظراً لحجم الاستثمارات التي ضُخت في هذا القطاع، فإن أي انهيار مفاجئ سيهز أسواق العمل، والاستثمار الصناعي، والبنية التحتية الرقمية.
تشير التقديرات التي قرأها بقش إلى أن أكثر من ثلث النمو الاقتصادي في الأرباع الأخيرة مرتبط بطفرة الذكاء الاصطناعي. أي تراجع كبير في هذا الزخم سيُترجم فوراً إلى تباطؤ اقتصادي، وقد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى خيارات صعبة بين خفض أسعار الفائدة لدعم الأسواق أو مواصلة سياسته النقدية المتشددة لمواجهة التضخم.
كما أن تأثير «تأثير الثروة» قد ينقلب في الاتجاه المعاكس، إذ سيؤدي تراجع مؤشرات الأسهم إلى تقليص ثروات الأسر الأمريكية، ما ينعكس سلباً على الاستهلاك، وهو المحرك الأكبر للاقتصاد الأمريكي.
هذه الدوامة قد تعيد رسم المشهد الاقتصادي بالكامل، كما حدث بعد انفجار فقاعة الإنترنت حين تراجعت الاستثمارات، وتباطأ النمو، واحتاجت الأسواق إلى سنوات لاستعادة الثقة.
تُظهر المعطيات الحالية أن الذكاء الاصطناعي يمثل بالفعل ثورة اقتصادية وتقنية، لكنه في الوقت نفسه يحمل سمات الفقاعات الكلاسيكية: توقعات غير واقعية، وتدفقات رأسمالية هائلة، وتقييمات مرتفعة لا تعكس بالضرورة الواقع المالي للشركات.
وإذا كانت فقاعة الإنترنت قد تركت جروحًا عميقة لكنها لم تُسقط الاقتصاد الأمريكي بأكمله، فإن فقاعة الذكاء الاصطناعي المحتملة قد تكون أوسع وأعمق، نظراً لتغلغل هذه التكنولوجيا في مختلف مفاصل الاقتصاد.
السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان هناك حماس مفرط -فهذا واضح- بل ما إذا كانت الأسس الاقتصادية قادرة على تبرير هذا الحماس على المدى الطويل. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن صدى الانفجار المقبل لن يتوقف عند حدود وول ستريت، بل سيتردد في المصانع، والشركات، والوظائف، والبيوت الأمريكية.