في تحول لسياسات السعودية الاقتصادية.. الرياض تُراجع مسار صندوق الاستثمارات العامة بعد عقد من الحماسة والمشاريع المؤجلة

الاقتصاد العربي | بقش
تتجه المملكة العربية السعودية إلى إعادة رسم ملامح سياساتها الاقتصادية والاستثمارية، بعد نحو عقد من الاندفاع خلف مشاريع عملاقة حملت وعوداً طموحة بتحويل الصحراء إلى مدن مستقبلية.
ووفقاً لتقرير خاص اطلع عليه “بقش” لوكالة “رويترز”، فإن الحكومة السعودية تعمل على إعادة تركيز صندوق الاستثمارات العامة -الذي يدير أصولاً تتجاوز 925 مليار دولار- نحو مجالات أكثر واقعية واستدامة بعد سلسلة من التأجيلات والتعثرات في مشاريع كبرى مثل “نيوم” و“ذا لاين” و“تروجينا”.
التحول الجديد يعكس نقلة فكرية داخل دوائر صنع القرار الاقتصادي في الرياض، حيث أظهرت التجربة أن المشاريع العقارية الضخمة التي صيغت بخيال جامح واندفاع دعائي لم تكن جميعها قابلة للتنفيذ أو مربحة على المدى القريب، خصوصاً مع تراجع أسعار النفط وتباطؤ تدفق الاستثمارات الأجنبية. فالمرحلة الجديدة تبدو أقل بهرجة وأكثر واقعية، إذ تتجه البوصلة نحو قطاعات مثل الخدمات اللوجستية، والتعدين، والسياحة الدينية، والذكاء الاصطناعي.
وتُظهر هذه المراجعة أن الرياض باتت أكثر حرصاً على ضبط إيقاع الرؤية الاقتصادية بما ينسجم مع ظروف السوق العالمية، بعيداً عن الحماسة التي صاحبت الإعلان الأول عن “رؤية 2030”، حين كانت وعود المدن الذكية والمشاريع الخرافية تتصدر المشهد الإعلامي دون خطط تنفيذية ناضجة.
مراجعة ما بعد الحماسة: من المدن الحالمة إلى اقتصاد قابل للقياس
حين طرح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان “رؤية 2030” في عام 2016، رافقها اندفاع كبير نحو مشاريع رمزية ذات طابع استعراضي مثل “نيوم”، و“ذا لاين”، و“تروجينا”، و“البحر الأحمر”، والتي وُصفت بأنها ستعيد تعريف العمران والطبيعة والاقتصاد.
غير أن مرور السنوات كشف فجوة واضحة بين الطموح والواقع: مشاريع ضخمة بتمويل هائل لم تتجاوز مراحلها الأولى، وجدول زمني يواصل التأجيل عاماً بعد آخر.
تواجه هذه المشاريع عقبات هيكلية متعددة: فالكلفة تجاوزت التقديرات الأولية بكثير، في حين أدت تقلبات أسعار النفط وتراجع العائدات إلى تقليص القدرة على تمويلها دون المساس بميزانية الدولة.
كما أن العديد منها، بحسب مصادر اقتصادية، افتقر إلى دراسات جدوى دقيقة، وتم الدفع به في البداية تحت تأثير الحماسة السياسية والرغبة في تسويق “رؤية 2030” كقصة نجاح كبرى قبل اكتمال البنية التنفيذية.
في ضوء ذلك، جاء القرار بإعادة تموضع صندوق الاستثمارات العامة خطوة حتمية لاجتناب تكرار الأخطاء نفسها. إذ تشير الخطط الجديدة إلى التحول من الوعود الرمزية إلى المشاريع القابلة للقياس والعائد الفوري، مع التركيز على قطاعات تُولد تدفقات مالية مستقرة وتُسهم في تنويع القاعدة الإنتاجية بعيداً عن النفط.
تركيز جديد على التكنولوجيا والمعادن واللوجستيات
الاستراتيجية الجديدة لصندوق الاستثمارات العامة، التي وافق عليها مجلس الإدارة خلال الأيام الماضية، تضع الذكاء الاصطناعي، والتعدين، والخدمات اللوجستية في مقدمة أولويات المرحلة القادمة.
ففي قطاع التكنولوجيا، تُخطط شركة Humain التابعة للصندوق لبناء مراكز بيانات بقدرة 6 جيجاوات وفق اطلاع بقش، ما يجعل السعودية أكبر مركز إقليمي في مجال البنية التحتية الرقمية. ويرى محللون أن هذا التوجه يهدف إلى تحويل الموارد الهيدروكربونية إلى طاقة تشغيلية للقطاع التقني، بما يعزز استقلالية الاقتصاد السعودي عن النفط الخام.
أما في مجال التعدين، فتسعى المملكة إلى استغلال احتياطياتها غير المعلنة من المعادن الأرضية النادرة التي يمكن أن تمنحها دوراً محورياً في الصناعات المستقبلية، مثل البطاريات والسيارات الكهربائية.
وتعمل الرياض أيضاً على تحويل موقعها الجغرافي إلى مركز لوجستي عالمي، مستفيدة من الأزمات المتكررة في سلاسل الإمداد العالمية ومن موقعها الرابط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.
هذا التوجه الجديد يُظهر تحولاً من “مشاريع الواجهة” إلى “الاقتصاد الوظيفي”، حيث يتم الاستثمار في البنية التحتية ذات الاستخدام المباشر، بدلاً من المشاريع الرمزية التي استهلكت موارد ضخمة دون نتائج ملموسة حتى الآن.
إعادة تقييم العوائد والمخاطر
وفق بيانات الصندوق التي تتبَّعها بقش، بلغ متوسط العائد السنوي بين 2017 و2024 نحو 7.2%، بعد أن كان 8.7% في نهاية 2023، نتيجة تخفيض تقييم عدد من المشاريع الكبرى.
هذا التراجع دفع إدارة الصندوق إلى مراجعة شاملة للاستثمارات التي لم تحقق أهدافها المالية، بما في ذلك بعض المشروعات السياحية والعقارية التي أُطلقت بشعارات براقة لكنها لم تُولد تدفقات نقدية.
في المقابل، حققت استثمارات الصندوق في مجالات أخرى نتائج أكثر استقراراً، خصوصاً في قطاعات الطاقة، والبتروكيماويات، والألعاب الإلكترونية. إذ أعلن الصندوق في سبتمبر الماضي عن دعم صفقة استحواذ بقيمة 55 مليار دولار على شركة “إلكترونيك آرتس” حسب متابعات بقش، لتعزيز مكانة المملكة في صناعة الترفيه الرقمي، وهو قطاع بات يُنظر إليه بوصفه جسراً بين التكنولوجيا والثقافة الشابة.
ويرى محللون أن هذه المراجعة تشير إلى تحول فلسفي في إدارة الثروة السعودية: من “الاستثمار في الصورة” إلى “الاستثمار في الجدوى”، حيث أصبحت الكفاءة والعائد أهم من الرمزية والتسويق.
السياحة الدينية والتنمية الداخلية: الاستثمار في الممكن
أحد محاور التحول الجديد هو إعادة تنشيط قطاع السياحة الدينية، بوصفه أكثر استدامة واستقراراً من المشاريع الفاخرة.
فقد أعلن ولي العهد عن مشروع تطوير في المسجد الحرام يضيف 900 ألف مصلٍ جديد، ضمن خطة لتوسيع الخدمات والإقامة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
هذا الاتجاه يُعيد رسم ملامح التنمية في المملكة نحو الاستثمار في الممكن والمجدي اجتماعياً واقتصادياً، ويمنح البنية التحتية الدينية دوراً محورياً في توليد الوظائف وتحريك السوق المحلية.
وفي السياق نفسه، تُظهر المؤشرات أن الحكومة تتجه إلى دعم السياحة الداخلية، والصناعات الثقافية، والمشروعات المتوسطة، باعتبارها محركات حقيقية للنمو المحلي يمكن متابعتها وقياس أثرها بوضوح.
بهذا، تنتقل السعودية من نموذج “التنمية الرمزية” إلى نموذج التنمية الملموسة الذي يوازن بين الطموح والرشد المالي.
تمثل إعادة تموضع صندوق الاستثمارات العامة نقطة انعطاف في مسار الرؤية الاقتصادية السعودية، حيث باتت الأولويات أكثر واقعية والعوائد أكثر قابلية للقياس. فبعد سنوات من الوعود الكبرى والمدن المستقبلية، أدركت الرياض أن التنمية لا تُقاس بعدد الأبراج والمشاريع المبهرة، بل بقدرة الاقتصاد على توليد الوظائف والعوائد المستدامة.
ومع هذا التحول، تدخل المملكة مرحلة “النضج الاقتصادي الثاني” -حيث يجري مواءمة الرؤية مع الواقع- دون التخلي عن الطموح، ولكن بإدراك أعمق بأن المشاريع الحقيقية تُبنى على أساس الجدوى لا على الإبهار، وأن مستقبل الاقتصاد السعودي لن يُصاغ في الصحراء وحدها، بل في مراكز البيانات، والموانئ، والمصانع، والمواهب التي تنتج قيمة لا صورة.


