
متابعات | بقش
في حلقة جديدة من مسلسل استنزاف الإرث الحضاري اليمني العريق، كشفت الهيئة العامة للآثار والمتاحف اليمنية اليوم النقاب عن قائمة إضافية تضم قطعاً أثرية نادرة تم نهبها وتهريبها خارج البلاد.
وأكدت الهيئة، في بيان رسمي، اطلع بقش على نسخة منه، أن هذه الكنوز المسروقة، التي تجسد فصولاً من تاريخ اليمن الممتد لآلاف السنين، تُعرض حالياً بوقاحة في صالات المزادات العالمية وعبر منصات ترويجية إلكترونية، في تجاهل صارخ للقوانين والأعراف الدولية.
وأوضح البيان أن هذه القائمة هي الخامسة والعشرون التي يتمكن فريق الرصد والتتبع التابع للهيئة من توثيقها، مما يعكس الحجم المأساوي لعمليات النهب المنظم التي تتعرض لها المواقع الأثرية اليمنية.
تشمل القطع المدرجة في القائمة الأخيرة مجموعة متنوعة من الآثار النفيسة، بينها رؤوس تماثيل آدمية وحيوانية، ومنحوتات، ونقوش أثرية تحمل أسرار الحضارات القديمة، بالإضافة إلى قطع ذهبية وأوانٍ فخارية وبرونزية وغيرها من المقتنيات الفريدة التي لا تقدر بثمن.
تراث اليمن : نهب ممنهج يغذيه التواطؤ الدولي
إن ما كشفته القائمة الأخيرة ليس سوى غيض من فيض في مأساة تهريب الآثار اليمنية المستمرة منذ سنوات، والتي تفاقمت بشكل كارثي جراء الصراع الدائر وغياب الاستقرار.
تشير تقارير المراكز المعنية بتتبع هذا الملف، بما في ذلك تحليلات “المرصد الاقتصادي بقش” وغيره من الجهات المهتمة، إلى أن اليمن يشهد عملية تجريف ممنهجة لذاكرته التاريخية.
فالقطع المهربة لا تقتصر على ما يُكتشف حديثاً، بل تشمل أيضاً مقتنيات كانت محفوظة في متاحف تعرضت للتخريب أو السرقة، ومواقع أثرية شهيرة تحولت إلى ساحات للتنقيب العشوائي من قبل عصابات محلية ودولية.
وتؤكد هذه المصادر أن شبكات تهريب الآثار الدولية قد استغلت حالة الفوضى والانهيار الأمني لتكثيف أنشطتها الإجرامية، حيث يتم نقل القطع الأثرية عبر مسالك معقدة لتصل في نهاية المطاف إلى الأسواق السوداء العالمية، ومنها إلى أيدي هواة جمع مجهولين أو حتى إلى بعض المتاحف الخاصة التي لا تدقق في مصدر مقتنياتها.
الآثار المنهوبة تشمل طيفاً واسعاً من كنوز الحضارات اليمنية القديمة، كالممالك السبئية والمعينية والقتبانية والحميرية، بالإضافة إلى مخطوطات إسلامية نادرة وتحف فنية تعود لعصور مختلفة، وكل قطعة منها تمثل شاهداً حياً على إسهامات اليمن في الحضارة الإنسانية.
إن الخسارة لا تقتصر على القيمة المادية لهذه القطع، بل تمتد لتشمل الضرر المعرفي والثقافي الجسيم، حيث تُنتزع هذه الآثار من سياقها التاريخي والجغرافي، مما يفقدها الكثير من قيمتها العلمية ويحرم الأجيال اليمنية القادمة من حقها في معرفة تراث أجدادها.
ويشير “المرصد الاقتصادي بقش” في تحليلاته إلى أن الأبعاد الاقتصادية لهذه الجريمة لا تقل خطورة، حيث يُحرم اليمن من عائدات سياحية وثقافية محتملة، فضلاً عن أن هذه التجارة غير المشروعة تغذي اقتصادات الظل وتساهم في تمويل أنشطة غير قانونية أخرى.
أمام هذا النهب الممنهج، جددت الهيئة العامة للآثار والمتاحف مطالبتها العاجلة للمنظمات والهيئات الدولية المعنية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والشرطة الدولية (الإنتربول) وسلطات الجمارك في مختلف الدول، بالتحرك الفوري لوقف هذه المزادات العلنية التي تنتهك بشكل فاضح المواثيق والقوانين الدولية المتعلقة بحماية التراث الثقافي، وفي مقدمتها اتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن حظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة.
وشددت الهيئة على ضرورة إلزام منصات البيع العالمية بالتدقيق في مصادر القطع الأثرية المعروضة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها الشرعيين، ممثلين في الشعب اليمني.
كما وجهت الهيئة دعوة مفتوحة إلى جميع المواطنين وكل من يمتلك أي معلومات حول الآثار المنهوبة أو المواقع التي تتعرض للتنقيب غير الشرعي، للمبادرة بالتواصل مع الجهات الرسمية وتقديم ما لديهم من معلومات، مؤكدة أن حماية التراث هي مسؤولية وطنية وإنسانية مشتركة.
إن استمرار عرض كنوز اليمن للبيع في المزادات العالمية بينما يعاني شعبه ويلات الحرب والحصار، يمثل وصمة عار على جبين الإنسانية، ويستدعي وقفة جادة من المجتمع الدولي لوضع حد لهذا النزيف الثقافي الذي يهدد بمحو أجزاء أصيلة من تاريخ البشرية جمعاء.