
لم تهدأ الأزمة السياسية في #حضرموت التي خلَّفتها قضية “تهريب النفط” واكتشاف أنبوب نفطي غير قانوني يربط منشآت شركة “بترومسيلة” في ميناء الضبة بوحدة التكرير في محطة الريان، وظهور مصافٍ نفطية مخالفة للمواصفات وسط أحواش ومزارع بالمحافظة، ليصبح المشهد مزدحماً بخلافات بين مكونات السلطة والقبائل التي تطالب هي الأخرى بتحسين أوضاع السكان وتمكينهم من عوائد الثروات.
فمن خلال زيارة للواء فرج البحسني، عضو المجلس الرئاسي، كُشف عمّا وُصفت بـ”عمليات نهب” واسعة للنفط الخام من خزانات ميناء #الضبة في حضرموت، وعمليات سحب نفطي بصورة غير قانونية تحت غطاء توفير وقود لـ”محطة كهرباء الريان” وفق متابعات بقش.
ومؤخراً بدا البحسني مكلفاً باستخدام رصيده في الأوساط الحضرمية لتهدئة الحراكات والأوضاع الاحتجاجية. وبالفعل، حصل البحسني على تأييد “حلف قبائل حضرموت” الذي يقود الحراك ويطالب بالإدارة الذاتية، ووصف الحلف أن الكشف عن وجود مصاف غير قانونية وبها العديد من الخزانات الكبيرة في ساحل حضرموت وكذلك وجود أنبوب من منشآت ميناء الضبة إلى أحد الأحواش المجاورة يعبّر عن “عملية كبرى لنهب وسرقة ثروات البلاد”.
الكشف عن عملية “الاختلاس” النفطي والتكرير السرّي لكميات من الخام أثار جدلاً حاداً في المحافظة التي يطالب أبناؤها بثرواتهم النفطية وإشراكهم رسمياً في تقرير مصيرها. لكن محافظ المحافظة، مبخوت بن ماضي، الذي بدا متهماً بشكل غير مباشر من جانب البحسني، استنكر ذلك وقال إن مصفاة تكرير النفط في منطقة الريان هي مصفاة منشأة بشكل رسمي، ونفى وجود أنبوب نفطي يربط منشآت شركة بترومسيلة في ميناء الضبة بوحدة التكرير في محطة الريان. كما أصدرت وزارة النفط والمعادن بياناً فنَّده خبير نفطي لـ”بقش” في الأسطر التالية.
وتفيد معلومات حصل عليها بقش بأن هناك الكثير من المصافي السرية الصغيرة والرديئة في المحافظة، منها ما تم تفكيكه قبل اكتشافه، في حين لا تزال أخرى بداخل أحواش ومزارع بحضرموت.
ولعل هذه المصافي الصغيرة تشبه إلى حد كبير مصافي النفط الصغيرة في #الصين التي يطلق عليها اسم “أباريق الشاي”، والتي تتعامل مع كميات نفط مهربة، مثل صادرات النفط الإيراني، بسبب توقف المصافي الصينية المملوكة للدولة الصينية عن التعامل رسمياً مع الإمدادات الإيرانية.
أنبوب متهالك ومصافٍ سرية
مع الكشف عن أنبوب نفطي متهالك، كُشف عن وجود مصافٍ غير قانونية للنفط الخام من قبل “عصابات نافذة تابعة لـ #التحالف” في المحافظة وفق ما كشفه الصحفي صبري بن مخاشن وهو من أبناء حضرموت.
وحسب المعلومات تم مد أنبوب لنقل النفط الخام من ميناء الضبة النفطي إلى بعد منع قوات #صنعاء تصدير النفط الخام في أكتوبر 2022، وجرى مدُّه إلى أحد الأحواش القريبة المجاورة، بغرض ضخ النفط الخام وتصفيته بطريقة غير قانونية. وقد بدأ ذلك يتكشف عقب منع حلف قبائل حضرموت خروج النفط الخام من المحافظة خلال العام الماضي، مع الحد من حركة ناقلات الوقود باتجاه محطة بترومسيلة لتوليد الكهرباء في عدن.
وطالبت هيئة مكافحة الفساد الحكومة بإيقاف “مصفاة تكرير النفط في منطقة الريان” التي تعمل بشكل عشوائي لا يتوافق مع أبسط المعايير الفنية والهندسية والصناعية المعتمدة في قطاع النفط والغاز، مع غياب معايير السلامة وتشكيل مخاطر على البيئة والاقتصاد وإهدار الثروات وموارد المحافظة.
محافظ حضرموت قال إن المصفاة تم إنشاؤها بشكل رسمي بعد مخاطبة الجهات العليا وإطلاعها على الأمر، والتنسيق مع وزارة النفط وشركة بترومسيلة لتزويد الوحدة بالنفط الخام اللازم للتكرير، وفق آلية رسمية مثبتة في سجلات المؤسسة العامة للكهرباء، ورغم أن الكميات المستلمة لا تتعدى قاطرتين أسبوعياً، فإن عدن تُخصَّص لها خمس قاطرات يومياً من النفط الخام وفق اطلاع بقش على بيان المحافظ.
بنفس الوقت نفى المحافظ وجود أي مصفاة أخرى تعمل في المحافظة، وأعلن براءة السلطة من أي مصافٍ إن وجدت”، وأضاف أن ادعاءات عضو المجلس الرئاسي البحسني، بوجود أنبوب نفطي يربط منشآت شركة بترومسيلة في ميناء الضبة بوحدة التكرير في محطة الريان هي ادعاءات “باطلة ولا أساس لها من الصحة”، وقال إن الأنبوب “هو مشروع حكومي سابق كانت الحكومة تعتزم ربطه بمصفاة كان من المزمع إنشاؤها بالقرب من ميناء الضبة، لكن المشروع تعثَّر ولم يتم ربطه بمنشآت شركة بترومسيلة”.
أما وزارة النفط فقالت إن العمل على هذا الأنبوب (الذي أحدث جدلاً بسبب عشوائيته) يعود إلى “شركة مستثمرة لبناء مصفاة جديدة في المحافظة” هدفت من إنشاء الأنبوب لتزويد المصفاة بحاجتها من النفط الخام، لكن تم التوقف وعدم استكمال العمل فيه منذ عامين ولم يتم ربط الخط بمنشآت الضبة حتى يتم الانتهاء من “الدراسات الفنية للمصفاة”.
تناقضات وزارة النفط
حول ذكر وزارة النفط بأن الأنبوب يعود إلى مشروع مصفاة تم إقرارها والتوقف فيها منذ عامين، يرد الخبير النفطي الدكتور عبدالغني جغمان، في حديث لـ”بقش”، بأن الوزارة “تكذب”، وإذا كان هذا الأنبوب “المتهالك والمقطوع من الجانبين عائداً إلى شركة بالفعل فهي فضيحة، فبالأساس ما هي الشركة؟ ما هي الجهة المنفذة للمشروع، ومتى رسا العقد”.
ويرى أن الاكتشاف المفاجئ للأنبوب النفطي يثير تساؤلات منطقية، خصوصاً أنه لا يمكن تركيب أنبوب بهذا الحجم فجأة ودون إجراءات واضحة، فالأنشطة المتعلقة بالبنية التحتية النفطية تتطلب تصاريح رسمية، ومعدات متخصصة، ووقتاً كافياً للتنفيذ.
ويتساءل: لماذا بدأ إنشاء خط أنابيب قبل الانتهاء من الدراسات والموافقات؟ مضيفاً: “الوزارة تقول إن العمل متوقف منذ أكثر من عامين على خط الأنبوب الممتد من موقع المصفاة (المقرر إقامتها بقرار حكومي)، وفي نفس البيان تؤكد أن الخط لم يتم ربطه بمنشآت الضبة لأنه لم تصدر بعد الموافقات النهائية للمصفاة، وهذا يُظهر التناقض الصارخ.
ويوضح الخبير “جغمان”: “كيف بدأ إنشاء خط أنابيب لمشروع لم يحصل على الموافقات النهائية؟ وكيف يتم توريد وتركيب أنابيب لمصفاة لم تكتمل دراساتها الفنية؟”.
ويشير إلى أن الوزير أصدر بياناً في يناير 2024 “يكشف كذب بيان الوزارة في 2025″، فقد “صرح حينها وزير النفط لصحيفة الشرق الأوسط أن هناك نقاشات نهائية لإنشاء مصفاة في الضبة، أي إن المشروع لم يكن متوقفاً بل كان قيد المفاوضات النهائية، وهو ما يثير التساؤل عن كيف يكون المشروع متوقفاً لأكثر من عامين بينما الوزير نفسه صرح قبل عام فقط أن المشروع قيد المناقشة النهائية؟”.
فإما أن الوزير كان يضلل الرأي العام في 2024، أو أن الوزارة تحاول التغطية على “تهريب النفط والفساد أو فشل المشروع في 2025” حد تعبير جغمان.
كما يتهم الوزارة بالتلاعب بالمعلومات لإرباك الرأي العام، حيث “ادعت وزارة النفط أن المشروع حاصل على الموافقة الحكومية، لكن دون أن يتم استكمال الدراسات الفنية ودون أن تصدر الموافقات النهائية بعد، ما يعني محاولة الوزارة التلاعب بالرأي العام، حيث يتم تقديم معلومات متناقضة في نفس البيان لخلق تشويش إعلامي حول المشروع”.
ويؤكد أنه لا يمكن منطقياً إنشاء خط أنابيب لمصفاة لم تكتمل دراساتها الفنية ولم تحصل على الموافقات النهائية، كما أن “عدم الإعلان عن مناقصة وتجاهل الاتفاقيات السابقة يشير إلى وجود شبهات فساد وتلاعب بالملف النفطي”.
ولا تتوقف القضية عند الأنبوب وحده، وفقاً للخبير النفطي، فتصاريح نقل النفط الخام من ميناء الضبة إلى مصافٍ غير رسمية تديرها جهات نافذة وتجار في السوق السوداء، تَصدُر مباشرةً من إدارة شركة بترومسيلة، وبتنسيق وحماية من رأس هرم السلطة في حضرموت، وهو ما يكشف عن شبكة مصالح واسعة تستغل النفط لتحقيق مكاسب شخصية وتمويل صراعات سياسية، في حين يعاني المواطن من أزمات اقتصادية خانقة وارتفاع في الأسعار وانعدام الخدمات الأساسية.
إلى ذلك تناول الخبير النفطي التسلسل التاريخي لموضوع إنشاء مصفاة بحضرموت، حيث يعود الأمر إلى عام 2002 عندما تم توقيع اتفاقية الشراكة بين شركة “ميد غاز” ووزارة النفط اليمنية والحكومة اليمنية لإنشاء شركة مصافي حضرموت في ميناء الضبة. ثم صدر في 2003 قرار جمهوري يؤكد استيفاء شركة مصافي حضرموت “ميد غاز” لكافة الإجراءات القانونية التي تخولها لإنشاء المصفاة.
وفي مارس 2023 كلَّفت #حكومة_عدن وزير النفط سعيد الشماسي، والهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط، بإعداد مخطط الإسقاط الهندسي للأراضي المخصصة للمصفاة الجديدة في ميناء الضبة واستكمال إجراءات تسليم الأرض للشركة الإماراتية “مليح للاستثمار وتطوير المشاريع”. وفي مايو من العام نفسه، أقرَّ مجلس الوزراء تسليم الأرض للمستثمر الجديد “شركة مليح” لإنشاء مصفاة بطاقة 25 ألف برميل يومياً كمرحلة أولى، إضافة إلى خزانات نفطية ومنطقة صناعية حرة.
ونشر الخبير النفطي في نوفمبر 2023 تقريراً يكشف مخالفات في اتفاقية إنشاء المصفاة، وتضمنت المخالفات “عدم تحديد رأس المال وغياب دراسة الجدوى الاقتصادية والدراسات الفنية والهندسية والبحرية، ومخالفة الاتفاقية السابقة الموقعة مع شركة مصافي حضرموت “ميد غاز” التي تمنحها الحق في إنشاء المصافي في ميناء الضبة”.
هذا وكانت اللجنة البرلمانية المكلفة بتقصي الحقائق في عدن، انتقدت في أغسطس 2024 وزارةَ النفط بسبب حجب البيانات والمعلومات حول الاتفاقيات النفطية، ورفض الوزارة تقديم نسخة من الاتفاقية الموقعة مع “شركة مليح”، مع عدم وجود دراسات جدوى أو رؤية واضحة لمشاريع الاستثمار في قطاع النفط.
كما تكشف هذه القضية في الوقت الذي يحذر فيه اقتصاديون من أن التلاعب في الثروة النفطية اليمنية يعمق الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها المواطنون، ويتسبب في إهدار الثروات الأساسية للبلاد في سبيل فوائد ومصالح شخصية لا يتم التعامل معها رسمياً.