
الاقتصاد اليمني | بقش
بينما يعيش اليمن أسوأ أزماته الاقتصادية والإنسانية في تاريخه الحديث، تتعرض ثروته الحضارية العريقة لعملية نهب ممنهجة تحت غطاء دولي وإقليمي، تغذيها الحروب وتغضّ عنها الأنظمة الرقابية الطرف.
في مشهد جديد من هذا النزيف المستمر، تستعد دار مزادات “أبولو للفنون” في لندن لعرض خمس قطع أثرية يمنية نادرة في مزادها المقرر يوم 26 يوليو 2025، ضمن ما أطلقت عليه “مزاد الفنون القديمة الجميلة – مجموعة الأمير” وفق معلومات اطلع عليها مرصد بقش.
القطع المعروضة تتراوح أعمارها ما بين 2100 و4600 عام، وهو ما يجعلها من أندر وأقدم الموروثات الثقافية في المنطقة، وقد أورد تفاصيلها خبير الآثار اليمني المعروف عبدالله محسن في منشور له على صفحته بـ”فيسبوك”، كاشفاً عن خلفيات بيعها غير الشرعية، ومسارات تهريبها التي بدأت منذ التسعينيات، وتفاقمت بعد اندلاع الحرب في البلاد عام 2015.
من سوق الفن البلجيكي والأمريكي إلى مزاد علني… كيف خرجت القطع الأثرية من اليمن؟
القطع الخمس التي ستُعرض في المزاد تعود إلى مجموعتين خاصتين: الأولى في لندن، اقتنتها من سوق الفن البلجيكي خلال التسعينيات، والثانية في المملكة المتحدة أيضاً، لكنها حصلت على القطع من سوق الفن الأمريكي.
اللافت أن جميع القطع خرجت من اليمن في فترات يكتنفها الغموض، سواء في سنوات ما قبل 2015 أو أثناء فوضى الحرب، ما يثير تساؤلات كبيرة حول دور شبكات التهريب الدولية، ومسؤولية المؤسسات الغربية التي تغض الطرف عن بيع آثار منهوبة من مناطق الحروب.
ومن بين المعروضات، تمثال جنائزي من القرن الأول قبل الميلاد، تمثال ثور من المرمر من القرن الثالث قبل الميلاد، ووعاء تجميل نادر منحوت من الحجر بنفس الفترة الزمنية، كما تضم المجموعة إناءً حجرياً يعود إلى 2600 قبل الميلاد مزيناً بزخارف نادرة، إضافة إلى “بروتوم” لثور، يُعد من أبرز أنواع الزينة الحجرية التي تعود إلى الحقبة المعينية.
كل قطعة من هذه القطع ليست مجرد تمثال أو وعاء، بل تحمل في طياتها ملامح حضارات اليمن القديمة، من سبأ ومعين وقتبان وحضرموت، التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل التاريخ الثقافي العربي والإسلامي.
تهريب الآثار ينهش من احتياطي اليمن الحضاري والمالي
تهريب الآثار لا يمثّل جريمة ثقافية فقط، بل هو نزيف اقتصادي حاد يتعرض له اليمن في صمت. بحسب تقديرات طالعها بقش صادرة عن منظمة “التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع” (ALIPH)، فإن قيمة القطع الأثرية المنهوبة من اليمن منذ بدء الحرب تجاوزت 2.5 مليار دولار، وهي أرقام كارثية بالنسبة لدولة يعاني أكثر من 80% من سكانها من الفقر، وتخسر يومياً مواردها السيادية لصالح شبكات تهريب معقدة وعابرة للحدود.
تغذي الحرب هذه السوق السوداء للتراث، حيث تتواطأ أطراف محلية ودولية لنهب الموروث الثقافي، ثم تمرره عبر مسارات تهريب تشمل شبكات داخل اليمن، وسماسرة في الخليج، ومشترين ومؤسسات فنية في أوروبا وأمريكا، كل ذلك دون تدخل دولي جاد.
الأزمة الاقتصادية اليمنية باتت متعددة الوجوه: من انهيار الريال وتضخم الأسعار، إلى توقف الإيرادات السيادية، ووصول الاحتياطي النقدي إلى مستويات حرجة، وفي ظل ذلك يخسر اليمن أيضاً احتياطه الحضاري، الذي كان يمكن أن يكون رافعة للاقتصاد في وقت السلم، عبر السياحة الثقافية والمتاحف والبحوث والاستثمار المعرفي.
ازدهار السوق السوداء للآثار… ومؤسسات الفن الغربية في موضع اتهام
ما يفاقم الوضع هو أن دور المزادات الدولية لم تعد تكتفي بدور الوسيط، بل أصبحت طرفاً أصيلاً في سلسلة التربح من آثار مسروقة، فدار “أبولو للفنون” ليست الأولى، فقد سبقتها دور مثل “كريستيز” و”سوثبيز”، التي عرضت عشرات القطع اليمنية خلال السنوات الأخيرة، ما يُشير إلى وجود سوق رائجة، وطلب مرتفع، وإمداد مستمر.
ومع كل عرض علني جديد، تتأكد الشكوك بأن هناك غطاءً إقليمياً ودولياً لهذه التجارة، يسهّل انتقال الآثار المنهوبة من يد لأخرى دون تتبع، وسط غياب واضح لأي مساءلة أو آليات تحقق فعالة في مصدر القطع أو شرعيتها القانونية.
عبدالله محسن، الذي يُعد من أبرز الأصوات المتخصصة في حماية التراث اليمني، نبّه إلى أن هذه المبيعات تعني فقداناً غير قابل للتعويض، وتهديداً لهوية وطن بأكمله، ومع تكرار المزادات، يبقى السؤال: أين دور حكومة اليمن واليونسكو والمنظمات الثقافية الدولية؟ ولماذا لا تُفعّل آليات المطالبة القانونية بإعادة الآثار المنهوبة، كما حدث في العراق ومصر وسوريا؟
الواضح أن غياب الدولة ومؤسساتها الثقافية عن هذا الملف قد فتح الباب على مصراعيه للنهب، وساهم في تطبيع فكرة بيع آثار من مناطق نزاع على أنها مجرد “مقتنيات فنية خاصة”، رغم أن القانون الدولي واتفاقية اليونسكو لعام 1970 تجرّم ذلك بشكل واضح.
ما يجري في مزادات الفن ليس مجرد بيع لمجسم أو وعاء حجري، بل هو تذويب لصورة اليمن في الذاكرة الإنسانية، وحرمان لأجياله القادمة من الاطلاع على ماضيهم، ومعرفة جذورهم. ومن منظور اقتصادي، فإن فقدان هذه الكنوز يضعف قدرة اليمن مستقبلاً على بناء اقتصاد معرفي وسياحي قائم على تاريخه العريق.
استمرار هذا النزيف دون ردع حاسم أو تحرك دولي ملموس، يجعل من اليمن ساحة مفتوحة لنهب كل ما هو ثمين: الأرض، والإنسان، والتاريخ، وإذا كانت الحروب تقتل الحاضر، فإن نهب الآثار يقتل المستقبل.