الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

كواليس خطيرة.. من يقف وراء انقطاع الرواتب في عدن؟

الاقتصاد اليمني | بقش

في تطور خطير يكشف حجم الانقسام داخل مؤسسات الدولة في عدن، تحتدم وطأة أزمة حادة بين محافظ البنك المركزي “أحمد غالب المعبقي” ورئيس وزراء حكومة عدن “سالم بن بريك” حول ملف المرتبات المتوقفة للشهر الرابع على التوالي.

وبحسب ما رصده بقش لمنشور الصحفي والخبير الاقتصادي ماجد الداعري، فإن الخلاف لم يعد مجرد نقاش فني حول أدوات مالية، بل تحول إلى مواجهة سياسية واقتصادية مفتوحة، تنذر بمزيد من الاضطراب في إدارة أهم الملفات الحيوية للمواطنين.

حكومة عدن طرحت ثلاثة خيارات أمام البنك المركزي لصرف المرتبات، الأول هو السحب على المكشوف من حسابات الحكومة، كما كان يحدث في إدارات سابقة، لكن المحافظ رفض ذلك جملة وتفصيلاً، مؤكداً أن حساب الحكومة مكشوف منذ سنوات بترليونات الريالات، وأن أي سحب إضافي سيكون بمثابة “انتحار نقدي”.

الخيار الثاني تمثل في الاستفادة من احتياطات البنوك التجارية ومكاسب تحسن صرف الريال، غير أن المحافظ شدد أن هذه أموال تخص البنوك ولا يمكن المساس بها في ظل عجز الحكومة عن إلزام 147 جهة حكومية بتوريد إيراداتها إلى البنك المركزي.

أما الخيار الثالث، الأكثر حساسية، فكان صرف المرتبات من حاويات العملة المطبوعة والمحتجزة في موانئ عدن وجدة والمكلا، وهو ما رفضه المحافظ تماماً معتبراً أن ضخ تلك الكميات سيقضي على أي استقرار تم تحقيقه مؤخراً.

الحاويات المطبوعة.. جدل الكارثة الأكبر

الخيار الثالث أثار جدلاً واسعاً داخل أروقة القرار. قيادة البنك المركزي وصفت اللجوء إلى هذه الحاويات بأنه “كارثة مالية مؤكدة”، ستفتح الباب أمام موجة تضخم لا يمكن السيطرة عليها، وتحوّل السوق إلى ملعب مفتوح للمضاربين والصرافين الكبار.

لكن في المقابل، يرى مسؤولون حكوميون أن ترك الجندي والموظف بلا راتب لعدة أشهر هو الكارثة الأكبر، وأن الإصلاحات المالية لا قيمة لها إذا لم يشعر المواطن بتحسن مباشر في حياته. هذا الجدل بين “استقرار العملة” و”استقرار حياة الناس” يلخص عمق المأزق الحالي، حيث لا يوجد حل وسط يمكن أن يرضي الطرفين.

الخلاف لم يتوقف عند طرق تدبير السيولة، بل امتد إلى أولويات الصرف. رئيس الحكومة يتهم المحافظ بتجاوز الصلاحيات وصرف التعزيزات المالية المتاحة لبنود لا تمثل أولوية، بما في ذلك مرتبات جهات كوزارة الدفاع والأمن، بينما يرى أن الأولوية يجب أن تكون لقطاعات مدنية وخدمية.

في المقابل، يؤكد المحافظ أن البلاد في حالة حرب، وأن الإنفاق على الدفاع والأمن ضرورة قصوى، مشيراً إلى أن الحكومة المثقلة بالديون لا يحق لها أن تفرض أولوياتها على سلطة نقدية مستقلة. وهكذا يتحول النقاش حول “أولويات المرتبات” إلى صراع على من يملك القرار الحقيقي في عدن: الحكومة أم البنك المركزي.

كشف الإعاشة.. ثقب أسود في المالية العامة

وبحسب ما رصده بقش، فإن الخلافات تعمقت أكثر بسبب ما يعرف بـ”كشف الإعاشة”، وهو بند مالي مثير للجدل يحوّل ملايين الدولارات شهرياً إلى مسؤولي حكومة عدن في الخارج تحت غطاء النفقات التشغيلية والإعاشة.

هذه المبالغ، التي تستهلك جزءاً كبيراً من العملة الصعبة المتاحة (حوالي 12 مليون دولار شهرياً)، تثير غضب خبراء الاقتصاد الذين يرون فيها نموذجاً صارخاً لسوء الأولويات في ظل توقف رواتب الجنود والموظفين في الداخل. الخبير ماجد الداعري أكد أن استمرار هذه التحويلات يضعف أي مبرر لرفض صرف المرتبات داخل اليمن، ويكشف عن خلل بنيوي في إدارة الموارد العامة.

147 جهة حكومية خارج السيطرة

أحد أخطر جوانب الأزمة يتمثل في وجود 147 جهة حكومية رئيسية لا تورد إيراداتها إلى البنك المركزي في عدن، بل تحتفظ بها في حسابات بالبنوك التجارية أو شركات الصرافة. هذه الثغرة، التي أشارت إليها تقارير سابقة لمرصد بقش، تمثل نزيفاً دائماً لمالية الدولة، وتجعل البنك المركزي عاجزاً عن الوفاء بالتزاماته.

ورغم محاولات شكلية لإلزام هذه الجهات بتحويل مواردها، إلا أن نفوذ القوى السياسية والعسكرية التي تحميها حال دون أي تقدم فعلي. وهكذا يجد البنك المركزي نفسه في مواجهة مزدوجة: عجز الحكومة عن التوريد، وضغطها المستمر لصرف المرتبات بوسائل تضخمية.

الأزمة الراهنة لا يمكن فصلها عن تاريخ طويل من سوء إدارة المنح الخارجية، خصوصاً المنح الخليجية التي ضُخّت خلال السنوات الماضية لدعم استقرار الاقتصاد. وبحسب ما وثقه بقش، فإن مليارات الدولارات تبخرت دون أن تُترجم إلى استقرار دائم في سعر الصرف أو تحسين الخدمات.

ويؤكد خبراء أن سوء الإدارة والعبث بالمنح السابقة يجعل من أي منحة جديدة مجرد “مسكّن مؤقت” إذا لم تقترن بآليات رقابة صارمة وإصلاحات هيكلية. ومع ذلك، تبقى الحاجة إلى منحة خليجية جديدة ملحة، ليس فقط لتغطية المرتبات، بل لإنقاذ ما تبقى من ثقة المواطن بالعملة المحلية.

بين القانون والسياسة.. الموظف الضحية

كلا الطرفين يتمترس خلف نصوص قانونية: المحافظ يؤكد استقلالية البنك المركزي وفق القانون المعدل، بينما تصر الحكومة أن البنك يعمل ضمن السياسة الاقتصادية العامة. لكن النتيجة النهائية واحدة: الموظف البسيط هو الخاسر الأكبر.

فالقوانين المتشابكة تتحول إلى ذريعة للتنصل من المسؤولية، بينما تتكدس الملفات على مكاتب المسؤولين دون حلول عملية. وهكذا يظل الجندي والمعلم والموظف ينتظرون راتباً قد لا يأتي، في حين تستمر النخب في سجالاتها حول من يملك القرار.

هذه الخلافات المتصاعدة تركت آثاراً مباشرة على السوق. البنوك التجارية فقدت ثقتها في استقرار السياسات، والمستثمرون المحليون باتوا أكثر حذراً في ضخ أموال جديدة. أما المستثمرون الأجانب، فقد نظروا إلى عدن كبيئة محفوفة بالمخاطر، خصوصاً مع الأخبار المتداولة عن كشف الإعاشة وعدم توريد الإيرادات.

التحويلات الخارجية من المغتربين تأثرت أيضاً، إذ يخشى كثيرون أن تقع أموالهم في شبكة الفوضى المصرفية. كل ذلك يعكس تآكل الثقة، التي تعد رأس المال الأهم لأي سياسة اقتصادية.

“الداعري” قال أيضاً بأن الحل لا يمكن أن يأتي إلا من مجلس القيادة الرئاسي، الجهة الوحيدة القادرة على فرض قرارات ملزمة للطرفين. المجلس مطالب بفض الخلافات، وتقديم غطاء قانوني للمحافظ ليتمكن من التصرف دون خوف، وإلزام الحكومة بجمع مواردها فعلياً.

كما أن “التفكير في تغيير المحافظ فهو شبه مستحيل”، وفي ظل الدعم الدولي الذي يحظى به من صندوق النقد والبنك الدولي ودول الخليج. ومع غياب تدخل جاد، سيبقى الاقتصاد رهينة لصراع النخب، وسيبقى الشعب يدفع الثمن من قوته اليومي.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش