كوريا الجنوبية.. أزمة سياسية بأبعاد اقتصادية

شهدت كوريا الجنوبية، وهي رابع أكبر اقتصاد آسيوي، أزمة سياسية هائلة مدفوعةً بسلوكيات شخصية للرئيس الكوري “يون سوك يول” بعد أن رفض البرلمان -الذي تسيطر عليه المعارضة- المصادقة على مشروع الموازنة، واتهامه للمعارضة بالعمل مع #كوريا_الشمالية وتقويض خططه ومشاريعه، وهو ما أدى به إلى إعلان فرض “الأحكام العرفية” (حكم الجيش مؤقتاً) على نحو صادم، ومحاصرة القوات للبرلمان.
والأحكام العرفية هي منح سلطة الحكم المؤقت للجهات العسكرية خلال حالات الطوارئ، حين تصبح السلطة المدنية غير قادرة على العمل، وقد كانت آخر مرة أُعلنت فيها الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية عام 1979، عندما اغتيل الرئيس أثناء انقلاب في البلاد، لكن لم يستمر العمل بالأحكام العرفية منذ أصبحت كوريا الجنوبية دولة ديمقراطية برلمانية عام 1987.
الرئيس الكوري الذي اتهم المعارضة بممارسة أنشطة معادية للدولة بما فيها “موالاة كوريا الشمالية” و”السيطرة على البرلمان”، التفَّت حوله هو وزوجته اتهامات بـ”الفساد”، إذ جاءت هذه الأزمة السياسية والدستورية بعد بدء تحقيق مع زوجة الرئيس لاتهامها بقبول حقيبة “كريستيان ديور” بقيمة 2200 دولار كهدية، وهو ما يُعدُّ انتهاكاً لقانون مكافحة الفساد الكوري.
والواضح أن ما أدى إلى هذه الأزمة هو التوتر المتواصل بين الرئيس والبرلمان الذي عطَّل المشروعات الاقتصادية للرئيس باعتبارها ليست مشاريع مفيدة بالضرورة كما يرى البرلمان، وكذلك عُمق الأزمة الاقتصادية وفشل الإدارة الوطنية ككل. بالتالي تم تناول الأزمة بأنها “شخصية” أكثر من كونها سياسية وفق متابعة بقش، وفاقمتها سياسات الرئيس الكوري الذي تبنَّى خطاباً متشدداً ضد كوريا الشمالية، ودخل في شراكة قوية مع إدارة #بايدن ضد #الصين.
لم تستمر “الأحكام العرفية” -التي أثارت احتجاجات عارمة في الشارع الكوري- سوى 6 ساعات تقريباً، حيث انتهت فجر الأربعاء بعد أن ألغاها البرلمان الذي دعا أيضاً لاستقالة الرئيس، لكن رغم إنهاء حالة الأحكام العرفية، لم تهدأ الاضطرابات وطالت مختلف مناحي الاقتصاد في البلاد.
ودعا اتحاد العمال الأكبر في كوريا إلى إضراب عام مفتوح إلى حين استقالة الرئيس، وأكد الاتّحاد الكوري لنقابات العمّال -الذي يشمل 1.2 مليون عضو- أن الرئيس اتخذ إجراء غير عقلاني ومناهضاً للديمقراطية، وبالتالي “وقّع وثيقة نهاية حكمه”. كما قدم العديد من كبار معاوني الرئيس استقالاتهم بشكل جماعي بعد فشل محاولته فرض الأحكام العرفية.
ويواجه الرئيس الآن احتمال عزله وحتى دخوله السجن، بعد أن كانت ولايته محددة رسمياً حتى عام 2027. وحسب صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية فإن الرئيس الكوري أمام خيارين، إما الاستقالة أو مواجهة إجراءات العزل.
اهتزاز العملة والأسواق
أُثير الذعر في الأسواق وفي أوساط المستثمرين، وتدخل البنك المركزي الكوري الجنوبي والمعارضة الديمقراطية الرئيسية لطمأنة المستثمرين، إذ تعهد البنك المركزي بتعزيز السيولة قصيرة الأجل وإجراء التدابير اللازمة لتحقيق الاستقرار في سوق الصرف الأجنبي حسبما تقتضي الحاجة، مع توفير أي قروض خاصة مطلوبة لضخ الأموال في السوق.
وقالت الهيئة التنظيمية المالية الكبرى في البلاد إنها مستعدة لنشر 10 تريليونات وون (7.07 مليارات دولار) في صندوق استقرار سوق الأوراق المالية في أي وقت لتهدئة معنويات السوق.
رغم ذلك لا تزال عملة “الوون الكوري الجنوبي” تواجه ضغوطاً بعد أن سجَّلت عقب فرض الأحكام العرفية أكثر من 1442 وون كوري للدولار الواحد في أدنى مستوى لها منذ أكتوبر 2022. ويشار إلى أن الوون الكوري بالأساس يُعتبر الأسوأ أداءً بين العملات الآسيوية خلال 2024 وفق متابعات بقش.
وتذهب التوقعات إلى ضعف أكبر للوون الكوري الجنوبي إلى مستوى يتجاوز 1450 مقابل الدولار خلال الأشهر المقبلة، رغم جهود البنك المركزي الكوري للتغلب على الضغوط.
وكالة بلومبيرغ ذكرت أن من الصعب التقليل من تأثير خطوة الرئيس على ثقة المستثمرين في الاقتصاد والأسواق المالية، حيث إن هذه الأحداث قد تدفع المستهلكين إلى تقليص الإنفاق، مما يعمق من التحديات الاقتصادية.
وبالأساس كان المستهلكون الكوريون حساسين تجاه التطورات المفاجئة، ففي عام 2014 قلّص المستهلكون الإنفاق بعد كارثة غرق “العبَّارة سيوال” (التي مات فيها أكثر من 100 شخص)، وفي 2015 تأثر النمو الاقتصادي بشدة بتفشي مرض متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS).
ويرى اقتصاديون لشبكة CNBC أن الاضطرابات السياسية الراهنة ستؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين في كوريا الجنوبية “لفترة طويلة”.
وخلال هذه الأزمة التي اهتزت لها الأسواق، قالت وزارة المالية إن الحكومة الكورية ستوفر “سيولة غير محدودة” في السوق المالية إذا لزم الأمر لمساعدتها على الاستقرار، وتعني الوزارة أسواق الأسهم والسندات والتمويل قصير الأجل وأسواق العملات الأجنبية بالكامل.
ووفق الوزارة الكورية، فإن جميع الأسواق المالية وأسواق الصرف الأجنبي وأسواق الأسهم ستعمل بشكل طبيعي.
كيف تؤثر الأزمة اقتصادياً؟
من شأن الاضطرابات السياسية أن تؤثر على إنتاج الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، وهو قطاع حيوي للعديد من الصناعات الكورية من السيارات إلى الهواتف الذكية، حيث تُعد كوريا الجنوبية موطناً لشركات كبرى أبرزها “سامسونغ” و”إل جي”.
ولأن كوريا الجنوبية تُعتبر رابع أكبر اقتصاد في #آسيا، فإن اضطراباتها السياسية تؤثر بعدم الاستقرار على الأسواق المالية الإقليمية والعالمية، ويصل الأمر إلى تقلب عملات آسيوية أخرى مثل الين الياباني أو اليوان الصيني نتيجة لخروج رؤوس الأموال من المنطقة الآسيوية.
وقد اهتزت أسواق المال الآسيوية بالفعل، إذ شهدت مؤشرات البورصات الآسيوية موجة بيع كبيرة يوم أمس الأربعاء وفق مراجعات بقش. وقد تراجع مؤشر كوسبي في كوريا الجنوبية بأقل من 2%، وأغلق المؤشر توبكس الياباني الأوسع نطاقاً على انخفاض بنسبة 0.5% إلى 2740.6 نقطة.
كما أن كوريا من أكبر مصدري السيارات والسفن والصناعات الثقيلة، لذا فإن أي توقف في عمليات الموانئ مثلاً، أو عمليات الإنتاج، سيؤثر بشدة على تدفق التجارة خصوصاً في آسيا و #أوروبا. إلى جانب ذلك، تعتمد شركات سيارات عالمية كبرى، مثل كيا وهيونداي، على كوريا الجنوبية كمركز رئيسي للإنتاج، وأي توقُّف للإنتاج محلياً سيؤثر على الإمدادات العالمية للسيارات وقطع غيارها.
ولا تُصنَّف كوريا الجنوبية كمنتج رئيسي للطاقة، لكنها مستورد كبير للنفط والغاز الطبيعي، وبالنتيجة فإن التوترات قد تزيد الطلب على الطاقة البديلة، ما من شأنه أن يضغط على الأسواق العالمية بشكل أو بآخر.
وعلى الصعيد المحلي، يؤدي تعطل الإنتاج والصادرات إلى تراجع النمو، ويشكل خروج المستثمرين الأجانب خطراً على الأسواق المالية، وينجم عن أي توقف للمصانع زيادة في البطالة.
وفي التوقعات أيضاً يعتقد اقتصاديون أن المعارضة قد تهيمن فعلياً على السلطة، وهو ما سيؤدي إلى سياسات مالية أكثر توسعاً، وبالتالي زيادة الإنفاق الحكومي. لكن بنفس الوقت، ليس من الضروري أن تؤثر هذه الاضطرابات بقوة على سلاسل التوريد العالمية، لكن على الصعيد الداخلي قد تضيف الاضطرابات أعباء إضافية على التوقعات الاقتصادية الضعيفة لكوريا الجنوبية، خصوصاً مع انتخاب #ترامب الذي يميل أكثر إلى السياسات الحمائية التجارية.
كوريا الجنوبية.. معاناة اقتصادية
يعاني الاقتصاد الكوري الجنوبي (وهو الاقتصاد الـ13 عالمياً بحجم 1.8 تريليون دولار) بالفعل من عدة تحديات، أبرزها ضعف الطلب المحلي وانكماش الصادرات ودورة هبوطية في سوق أشباه الموصلات. لذا فإن اقتصاديين كوريين يطالبون بوجود حكومة قوية لامتلاك ميزانية داعمة مالياً على المدى القصير والمدى الطويل للتعامل مع التحديات الكثيرة.
وفي الأسبوع الماضي، خفَّض البنك المركزي الكوري توقعاته لنمو اقتصاد البلاد هذا العام إلى 2.2% من توقعات سابقة عند 2.4% في أغسطس الماضي، كما خفض توقعاته للعام 2025 من تقديراته السابقة البالغة 2.1% إلى 1.9%، بسبب تباطؤ نمو الصادرات وضعف الطلب المحلي.
ومع التوقعات الأكثر قتامة للنمو، قام المركزي الكوري بخفض سعر الفائدة الرئيسي بشكل غير متوقع بمقدار ربع نقطة مئوية إلى 3%. ومن جانب آخر، توقَّع صندوق #النقد_الدولي في بياناته الحديثة نمو الاقتصاد الكوري بنسبة 2.2% هذا العام و2% في عام 2025.