الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

كيف خسرت تركيا 25 مليار دولار في 4 سنوات لمحاولة حماية عملتها.. ولماذا فشلت؟

الاقتصاد العالمي | بقش

في خطوة تعكس عمق التحديات التي تواجه الاقتصاد التركي، أعلن البنك المركزي أمس السبت الموافق 23 أغسطس 2025 إغلاق برنامج “حماية ودائع الليرة” الذي استُحدث قبل أربعة أعوام لإنقاذ العملة من الانهيار، القرار يعني التوقف عن فتح أي حسابات جديدة أو تجديد الحسابات القائمة، على أن تستمر فقط الحسابات المفتوحة حتى استحقاقها.

برنامج “KKM” الذي أطلقه الرئيس رجب طيب أردوغان في ديسمبر 2021 جاء كحل استثنائي لتعويض المودعين عن أي خسارة ناجمة عن تراجع الليرة مقارنة بالدولار، ورغم أن الخطوة كبحت الذعر مؤقتاً، فإنها سرعان ما تحولت إلى عبء ثقيل على المالية العامة. وبحسب بيانات هيئة التنظيم المصرفي التي اطلع عليها مرصد بقش، تكبد الاقتصاد نحو 25 مليار دولار نتيجة تغطية هذه الودائع، بعدما قفز حجمها إلى 3.4 تريليون ليرة في 2023، قبل أن يتراجع إلى 440.6 مليار ليرة فقط (11 مليار دولار) منتصف أغسطس الجاري.

“نجاح” حكومي أم اعتراف بالفشل؟

وزير المالية محمد شيمشك اعتبر عبر منصة “إكس” أن إنهاء البرنامج “تحقيق لهدف مهم” سيعزز الاستقرار المالي، لكن محللين يرون أن الخطوة تعكس العكس تماماً: فالأداة لم تنجح في حماية الليرة أو كبح التضخم، بل زادت اعتماد الاقتصاد على تدخلات مالية مكلفة وعطلت انتقال السياسة النقدية.

إغلاق البرنامج يعني عملياً أن السلطات لم تعد قادرة على تحمل أعبائه، خاصة في ظل عجز متنامٍ وضغوط متزايدة على الاحتياطات الأجنبية.

وبحسب تقرير اطلع عليه بقش لشبكة بلومبيرغ، فإنهاء البرنامج لا يعني استعادة الثقة بالليرة بالضرورة. فالتضخم لا يزال عند مستويات مرتفعة، والاعتماد على رفع أسعار الفائدة لم ينجح حتى الآن في وقف نزيف القدرة الشرائية. كما أن تراجع حجم الحسابات المحمية لا يعكس تحسناً في العملة بقدر ما يعكس عزوف المستثمرين والمودعين عن هذه الآلية بعد أن فقدت جدواها.

ويرجح خبراء أن تواجه تركيا في المرحلة المقبلة تحديات إضافية، منها صعوبة جذب الاستثمارات، استمرار الطلب على الدولار كملاذ آمن، وتزايد الضغوط على الحكومة لتمويل التزاماتها في ظل ضعف الثقة بالسوق المحلية.

وعلى الرغم من هبوط التضخم السنوي إلى نحو 33.5% في يوليو 2025 بعد ذروة العام الماضي، يبقى المستوى مرتفعاً بما يضغط على القدرة الشرائية ويعقّد مسار الخفض السريع للفائدة.

البنك المركزي استأنف دورة التيسير بقطع 300 نقطة أساس في 24 يوليو حسب مراجعة بقش، ويستهدف – ضمن استراتيجية مُعلنة – خفض التضخم إلى 16% بنهاية العام المقبل ثم 9% بنهاية 2027، بينما ترى الأسواق أن تضخم نهاية 2025 قد يقترب من 30% مقابل توقع رسمي أدنى (حوالى 24%). هذا التباين بين أهداف البنك وتوقعات السوق يعكس مخاطر الاتساع مجدداً في حال تسارع الطلب أو تراجُع الليرة.

مالياً، تتعامل أنقرة مع فجوة موازنة متسعة دفعتها لرفع ضرائب على الودائع بالليرة وصناديق النقد لزيادة الإيرادات؛ إذ بلغ العجز نحو 650 مليار ليرة في الخمسة أشهر الأولى من 2025.

خارجياً، تحسّن الحساب الجاري في 2024 إلى أقل من 10 مليارات دولار عجزاً بفضل تشديد السياسة وتقليص واردات الذهب، لكن التوازن ما زال هشّاً، فتقديرات 2025 تشير إلى عجز بنحو 1.5% من الناتج، فيما اتّسع العجز التجاري في يونيو إلى أكثر من 8 مليارات دولار مع تسارع الواردات، وهذه المؤشرات توضح أن تخفيف الضغوط يتطلب تباطؤ الطلب المحلي واستمرار ضبط المالية العامة.

ويدور سعر صرف الليرة قرب 41 ليرة لكل دولار عند أعلى نطاقه خلال 52 أسبوعاً، ما يبقي الحساسية مرتفعة لأي مفاجآت تضخمية أو سياسية. إنهاء برنامج الودائع المحمية (KKM) في 23 أغسطس – مع وقف فتح وتجديد الحسابات – يخفف أعباءً شبه مالية لكنه يختبر متانة الثقة بالليرة وقنوات انتقال السياسة النقدية، خاصة مع استمرار دورة الخفض. ونجاح هذا الانتقال سيتوقف على بقاء التدفقات إلى الودائع بالليرة واستقرار التوقعات التضخمية، وإلا قد تعود الدولرة كعامل ضغط.

مقارنة مع تجارب دول أخرى: أدوات إنقاذ مؤقتة وليست حلولاً مستدامة

في البرازيل، أُطلق في مارس 2009 ما يُعرف ببرنامج ضمان الودائع الزمنية (DPGE) لحماية ودائع المؤسسات عند البنوك المتعثرة، مع تغطية تصل إلى 20 مليون ريال برازيلي (نحو 9 ملايين دولار) لكل مودع لكل مجموعة مصرفية.

بلغ أقصى تغطية 28 مليار ريال، وسُدّت تعويضات بقيمة 4.1 مليار ريال للمودعين بين 2011 و2016. لكن البرنامج كان مؤقتاً: خلصت خطته الأصلية إلى نهايته في 2016، قبل أن يتم تعديلها إلى نسخة أقل تكلفة، تتطلب ضمانات من البنوك نفسها، ما يعكس أن هذه الأدوات عادةً تُستخدم في أوقات الأزمة ثم تُستبدل بأطر أكثر انضباطاً.

وفي الأرجنتين أيضاً، شهدت البلاد فكرة “كوراليتو” (Corralito) في أواخر 2001، بعد أزمة مالية حادة، حيث قررت الحكومة تحديد حجم سحب النقود أسبوعياً لمواجهة تدفّق السكان لسحب مدخراتهم خوفاً من انهيار النظام المصرفي.

ولكن هذا القرار أثار غضباً اجتماعياً واسعاً، وسرعان ما تحوّل إلى رمز للفشل الاقتصادي، حيث تم فرض تحويل ودائع إلى سندات “بونيكس 89” التي لم تسدد حتى نهاية العقد حسب قراءات بقش. هذا المثال يوضح أن الإجراءات الطارئة قد توفر تهدئة قصيرة الأمد لكنها تحمل أثماناً اجتماعية واقتصادية باهظة، وتُخيم كظلال مظلمة على سمعة النظام المالي.

من هذه التجارب يتضح أن الأدوات مثل “حماية ودائع” أو قيود مؤقتة على السحب تُستخدم كـ “كمامة أزمة” لكنها ليست حلّاً دائماً وفق تحليل بقش، وفي معظم الأحيان، تُلحق بها إصلاحات هيكلية لاحقة، أو يُفرض عليها تعديل سريع عندما يتحقق الاستقرار النسبي. نهاية برنامج حماية الليرة في تركيا إذاً لا يجب أن تُفسّر كبداية تعافٍ حقيقي، بل كلحظة انتقال نحو مرحلة أكثر تطلباً عبر تبني إطار نقدي مستدام.

برنامج حماية ودائع الليرة الذي قُدم كمنقذ في 2021 ينتهي اليوم كرمز لفشل السياسات النقدية غير التقليدية. ورغم محاولة أنقرة تصوير القرار كنجاح، فإن الخسائر المليارية والانكماش في ثقة الأسواق يضعان الاقتصاد أمام استحقاقات أكثر صعوبة، أبرزها كيفية استعادة الثقة بالعملة دون اللجوء إلى أدوات مكلفة وعابرة مثل “KKM”.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش