الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

كيف هزت قضية “الإعاشة بالدولار” لمسؤولي الخارج مصداقية الإصلاحات النقدية في اليمن؟

الاقتصاد اليمني | بقش

في وقت يترقب فيه اليمنيون أي بادرة أمل للخروج من نفق الأزمة الاقتصادية الخانقة، انفجرت فضيحة جديدة أثارت موجة غضب عارمة على وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما كشف الصحفي فتحي بن لزرق عن صرف مبلغ قدره 11 مليون دولار وتحويله عبر البنوك إلى حسابات مسؤولين حكوميين يقيمون في الخارج، تحت مسمى “الإعاشة الشهرية”.

المبلغ الضخم الذي وصفه بن لزرق بأنه مجرد “دفعة أولى” حوّل النقاش العام في البلاد إلى عاصفة من التساؤلات: بأي وجه حق تُصرف هذه الأموال لمسؤولين غائبين عن الداخل، فيما يئن المعلمون والجنود من انقطاع رواتبهم لأشهر طويلة؟

ردود الفعل الأولى كانت غاضبة وصاخبة. بن لزرق شدّد في منشوراته على أن استمرار هذه المخصصات أمر غير مقبول، ودعا إلى وقفها فوراً أو على الأقل ربطها بعودة المسؤولين إلى الداخل لاستلامها بالريال اليمني، مثل بقية الموظفين.

أما القيادي في المجلس الانتقالي الجنوبي فادي باعوم، فقد هاجم ما أسماه “التلميع الإعلامي” للقضية، مؤكداً أن هذا الملف ليس “اكتشاف العصر” وأنه تحدث عنه مراراً منذ عام كامل، بل وكتبت عنه صحف محلية عديدة.

باعوم قال بوضوح: “اللص يبقى لصاً، وما نراه اليوم ليس سوى رأس جبل الجليد، الإصلاح الحقيقي لا يكون بترقيع الأضرار، بل بمحاسبة كل الفاسدين وفتح كل الملفات بلا استثناء”.

الحكومة من جانبها لم تتأخر في الرد وفق متابعة مرصد بقش، فبعد 48 من تصدر القضية لمواقع التواصل الاجتماعي، وخروج عدد من المسؤولين لتبرير تواجد أسمائهم في كشوفات الإعاشة، نفت مصادر رسمية أن تكون هناك “مبالغ ضخمة” صُرفت بالدولار، واعتبرت ما يُتداول مجرد “شائعات مضللة”، مؤكدة أن لجنة مراجعة قد شُكّلت بالفعل لإعادة النظر في الكشوفات.

ورغم هذه التصريحات، لم تُعلن أي جهة رسمية حتى الآن وقف هذه المخصصات بشكل كامل، وهو ما جعل الشارع يعتبر الموقف الحكومي مراوغة جديدة تهدف إلى امتصاص الغضب لا أكثر.

أرقام كبيرة تهز الثقة بجهود بنك عدن المركزي وتحركاته لضبط سوق الصرافة

لكن جوهر القضية ليس في السجال الإعلامي فقط، بل في انعكاساتها الاقتصادية الخطيرة. الخبير الاقتصادي أحمد الحمادي أكد في تصريح سابق لبقش أن ما يجري يمثل “ضربة مباشرة” لجهود البنك المركزي بعدن، الذي يحاول منذ أشهر ضبط سوق الصرف وإعادة بناء الثقة في النظام المالي.

الحمادي قال: “كيف يمكن للبنك أن يقنع المواطنين والمستثمرين بجدّية الإصلاح بينما تُصرف ملايين الدولارات شهرياً لمسؤولين لا يقومون بأي مهام فعلية داخل البلاد؟ هذا التناقض يسحب من رصيد الثقة القليل المتبقي”. وأضاف أن استمرار هذه الممارسات يفرغ سياسات التقشف المعلنة من مضمونها، ويحوّلها إلى مجرد شعارات جوفاء.

الأرقام هنا تفضح حجم المفارقة، فسعر الصرف في عدن يوم 25 أغسطس بلغ نحو 1630 ريالاً للدولار الواحد، ما يعني أن مبلغ 11 مليون دولار يعادل قرابة 17.9 مليار ريال يمني، وهذا الرقم وحده يكفي لتغطية رواتب أكثر من 98 ألف معلم لمدة ثلاثة أشهر، على أساس راتب شهري يقدّر بـ60 ألف ريال.

كما يكفي المبلغ ذاته لدفع رواتب عشرات الآلاف من الجنود الذين ينتظرون “راتبهم اليتيم” منذ أشهر. وبالمقابل، فإن هذا المبلغ يوزع على بضع مئات من المسؤولين في الخارج تحت بند “الإعاشة”، وسط تقديرات تقول إن بعضهم يتقاضى ما بين 2500 و7000 دولار شهرياً، بل وهناك من يحصل على أكثر من ذلك.

هذه المقارنات ليست مجرد حسابات رياضية، بل هي مرآة تعكس واقعاً مقلوباً: دولة عاجزة عن دفع رواتب موظفيها الأساسيين، لكنها قادرة على ضخ ملايين الدولارات إلى الخارج لمسؤولين يتفرجون من بعيد على معاناة الداخل.

المفارقة تزداد قتامة حين نتذكر أن البنك المركزي في عدن يفرض إجراءات صارمة على شركات الصرافة، ويحدد سقوفاً للحوالات الخارجية، ويشدد قبضته على السوق بدعوى حماية العملة ومنع المضاربة. كيف يستقيم خطاب التقشف مع سياسة الإعاشة بالدولار؟ وكيف يثق المواطن في إصلاحات تُمارَس بيد، بينما اليد الأخرى تفتح صنبور الهدر؟

غضب شعبي متصاعد

في الشارع، حالة الإحباط تتصاعد، المعلم الذي يعود إلى مدرسته بعد إضراب قاسٍ بلا راتب، والجندي الذي يخرج إلى نقطة عسكرية بلا أجر، والمواطن الذي يتقلب بين الأسعار الملتهبة والقدرة الشرائية المعدومة، جميعهم يتساءلون: بأي وجه حق تُصرف هذه الإعاشة، ومن المستفيد منها؟ وما الذي قدمه هؤلاء المسؤولون “المنفيون الطوعيّون” في الخارج لاستحقاق كل هذه المبالغ؟

في تصريحات لبقش حول القضية، يقول المعلم “سمير مازن” من عدن: “ثلاثة أشهر وأنا أذهب إلى المدرسة يومياً دون راتب، لا أستطيع شراء مستلزمات أطفالي، وأحياناً أضطر للاقتراض من زملائي، عندما سمعت أن 11 مليون دولار صُرفت لمسؤولين في الخارج، شعرت أنني بلا قيمة في هذا البلد”.

أما الجندي “ع. س.” من لحج فقال: “راتبي لا يتجاوز 50 ألف ريال، ولم أستلمه منذ شهور. نحن نحرس النقاط ونخاطر بحياتنا، بينما آخرون في الخارج يتقاضون بالدولار! هذه خيانة لتضحياتنا”.

القضية في جوهرها ليست مجرد ملف مالي، بل اختبار حقيقي لمصداقية الدولة ومؤسساتها. إذا لم تُفتح هذه الملفات بشفافية، وإذا لم تُنشر الأرقام والحقائق أمام الرأي العام، فإن كل حديث عن الإصلاح الاقتصادي سيبقى حبراً على ورق.

فالإصلاح ليس سقوف حوالات ولا إغلاق شركات صرافة فقط، بل هو قبل كل شيء عدالة مالية ووقف للهدر ومحاسبة صارمة للمسؤولين الفاسدين.

اليمنيون اليوم لا ينتظرون بيانات نفي أو ترحيل للأزمات، بل يريدون إجابة واحدة بسيطة: لماذا تُصرف ملايين الدولارات لمسؤولين في الخارج، بينما الداخل يغرق في العجز والجوع؟ هذه الإجابة، إن لم تأتِ عاجلاً وبأفعال ملموسة، فإن الثقة المتبقية في أي إصلاح ستنهار تماماً، وسيتحول الحديث عن “التقشف” إلى مهزلة لا يصدقها أحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش