“لا علاقة لنا بإسرائيل”.. عشرات السفن تواصل تمويه هويتها وجنسيتها عند المرور من البحر الأحمر

أخبار الشحن | بقش
في مؤشر صارخ على التحولات التي تشهدها المنطقة، تواصل عشرات السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر والخليج العربي بث رسائل رقمية تنفي فيها صلتها بإسرائيل، في محاولة لتجنّب التعرض لهجمات مسلّحة، خصوصاً مع تصاعد التوترات منذ أواخر 2023.
الظاهرة، التي رصدتها شركات استخبارات بحرية، باتت تمثل واقعاً جديداً في عالم الشحن الدولي، حيث أصبحت “البراءة من العلاقة مع إسرائيل” شكلاً من أشكال الدفاع الذاتي.
وتظهر بيانات شركة Windward لتحليل المخاطر أن الفترة ما بين 12 و24 يونيو وحدها شهدت قيام 55 سفينة بإرسال أكثر من 100 رسالة هوية بحرية غير اعتيادية، عبر نظام التتبع الآلي (AIS) وفق متابعات بقش. بعض السفن ادعت أنها “مملوكة للصين” أو تنقل “نفطاً روسياً”، بينما ذهبت أخرى – كإحدى السفن المسجلة في سنغافورة – إلى حد بث رسالة تقول: “لا علاقة لنا بإسرائيل”.
هذا النمط لا يمكن فصله عن التطورات في البحر الأحمر، حيث تواصل قوات صنعاء (الحوثيين) استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل أو المتوجهة إلى موانئها، ضمن ما تقول إنه رد على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
وعلى الرغم من محدودية قدرات الحركة مقارنةً بالقوى الدولية، فإن دقة واستمرارية هجماتها فرضت معادلة ردع غير مسبوقة في المنطقة، أدت إلى إعادة تشكيل سلوك السفن التجارية على مستوى عالمي.
الردع البحري يتجاوز نطاق اليمن
مصادر بحرية دولية تؤكد أن حالة القلق المتزايدة لا ترتبط فقط بالهجمات نفسها، بل أيضاً بالغموض الذي يكتنف قرارات الاستهداف وفق اطلاع بقش، مما يجعل السفن تشعر بالحاجة إلى التنصل العلني من أي شبهة ارتباط سياسي أو لوجستي بإسرائيل.
في هذا السياق، صرّح “آمي دانييل”، الرئيس التنفيذي لشركة Windward، قائلاً: “الشركات المالكة للسفن أصبحت تتعامل مع مسألة الهوية كخطر وجودي، وضمن مشهد شحن دولي معقد يكثر فيه استخدام الشركات القشرية والأعلام المرنة، باتت الرسائل المفتوحة وسيلة دفاع رقمية ضد هجمات غير تقليدية”.
وإلى جانب الحوثيين، تزايدت المخاطر أيضاً بسبب التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، وهي خطوة من شأنها تعطيل نحو 20% من تجارة النفط العالمية حسب البيانات التي يتتبعها بقش لدى وكالة الطاقة العالمية.
ويأتي ذلك على خلفية تصعيد إسرائيلي-إيراني، ما دفع السفن العاملة في المنطقة إلى تعزيز تدابير الحماية، سواء عبر التمويه أو تغيير المسارات.
أثر مباشر على إسرائيل في التجارة الدولية
التحول اللافت هنا أن السفن لا تكتفي بمحاولة التخفي وراء رايات دول كروسيا أو الصين، بل باتت تسعى صراحة إلى نفي أي ارتباط بإسرائيل، وهو ما يُظهر إلى أي مدى أصبحت هذه الصلة مصدراً محتملاً للخطر.
هذه الديناميكية لا تعكس بالضرورة مواقف سياسية، بقدر ما تمثل قراءة براغماتية من الشركات تجاه التهديدات المباشرة، فبعد سنوات من صفقات التطبيع والربط اللوجستي بين إسرائيل والأسواق العالمية، يجد الشركاء التجاريون أنفسهم مضطرين للابتعاد – ولو لفظياً – عن أي علاقة قد تعرّضهم للاستهداف.
وتقول تقارير الشحن إن بعض السفن المتجهة إلى موانئ في شبه القارة الهندية أو شرق إفريقيا بدأت تبث رسائل تؤكد عدم تورطها مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وهو ما يمكن اعتباره نتيجة مباشرة لفعالية الضغوط العسكرية في البحر الأحمر.
هذا التحول لا يقتصر على اللغة المستخدمة، بل يمتد إلى الاقتصاد، فشركات تأمين بحرية رفعت أقساط التأمين بنسبة تصل إلى 400% في بعض الممرات وفق متابعة بقش، بينما باتت شركات النقل تفضّل الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، رغم كلفته الزمنية والمالية.
الردع الذي تفرضه قوات صنعاء لم يُترجم إلى “إغلاق رسمي” للبحر الأحمر، لكنه أدى عملياً إلى عزل إسرائيل عن أهم ممر مائي في العالم. وتقدر بيانات “كلاركسونز” البحرية أن حجم الشحن عبر المضيق انخفض بأكثر من 45% منذ بداية 2024، بينما انخفضت واردات الحاويات إلى موانئ إسرائيل بنسبة 34% خلال النصف الأول من العام، بحسب أرقام هيئة الموانئ الإسرائيلية.
في ظل هذه الظروف، باتت شركات الملاحة تتعامل مع البحر الأحمر بوصفه ساحة معركة حقيقية، تختلف فيها قواعد اللعب، وتخضع فيها السفن إلى اختبارات أمنية أكثر مما تخضع لمعايير التجارة.
القلق يتزايد من أن تصبح “الهوية البحرية” عبئاً أكثر منها إشارة تشغيلية، في وقت بدأت فيه هويات السفن تُستخدم كسلاح، سواء للتخفي أو كمعيار للاستهداف.
المشهد الحالي لا يحمل مؤشرات على قرب الحلحلة، فما بدأ كرد محدود من حركة يمنية على حرب في غزة، تحول إلى أزمة شحن عالمية تعيد تعريف مفاهيم الحياد، وتفرض على الشركات إعادة النظر ليس فقط في مساراتها، بل أيضاً في بياناتها وأعلامها.