الاقتصاد العربي
أخر الأخبار

لبنان يغرق أكثر في الديون: قرض جديد بربع مليار دولار من البنك الدولي لكهرباء مُنهكة

في خطوة تثير جدلاً واسعاً وتزيد من المخاوف بشأن مستقبل الاقتصاد اللبناني المثقل بالديون، وقعت الحكومة اللبنانية اتفاقية قرض جديدة بقيمة 250 مليون دولار مع البنك الدولي، بزعم معالجة أزمة الكهرباء المتفاقمة التي أغرقت البلاد في الظلام لعقود، وتفاقمت بشكل كارثي مع الانهيار المالي والاقتصادي المستمر منذ سنوات.

يأتي هذا القرض في وقت يعاني فيه اللبنانيون من انقطاعات شبه دائمة للتيار الكهربائي نتيجة للنقص المزمن في واردات الوقود وتهالك البنية التحتية، وهي مشاكل تفاقمت بفعل عقود من سوء الإدارة والفساد، ولم تكن وليدة الأزمة الاقتصادية الأخيرة فحسب، بل كانت أحد أسبابها ومظاهرها الصارخة.

ويُقدم البنك الدولي هذا القرض كجزء مما يصفه بجهود التعافي، وهو الذي قدّر سابقاً حاجة لبنان لنحو 11 مليار دولار لإعادة البناء حسب مراجعات بقش، وهو رقم يفتح الباب أمام سلسلة لا تنتهي من القروض المشروطة التي قد تزيد من عبء الديون وتقيد السيادة الاقتصادية للبلاد.

ورغم ترحيب وزير المالية اللبناني بالقرض واعتباره “دعماً لخطوات الإصلاح”، فإن تجارب العديد من الدول مع تدخلات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تثير قلقاً بالغاً.

فغالباً ما تأتي هذه القروض مصحوبة بوصفات “إصلاحية” قاسية تشمل رفع الدعم، والخصخصة المتسرعة، وسياسات تقشفية تضر بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتخدم أجندات خارجية أكثر من خدمة التنمية المحلية المستدامة.

وتشمل تفاصيل المشروع الممول بالقرض، بحسب المدير الإقليمي في البنك الدولي “جان كريستوف كاريه”، إنشاء مركز تحكم وطني جديد، وتحسين نظام المحاسبة والفوترة في مؤسسة كهرباء لبنان (وهو مطلب قديم لم يتحقق رغم الوعود المتكررة)، بالإضافة إلى تطوير مزارع طاقة شمسية (150 ميغاواط كمرحلة أولى) وتأهيل محطات كهرومائية على نهر الليطاني وتعزيز شبكة النقل.

وبينما تبدو هذه المشاريع ضرورية على الورق، يخشى المراقبون أن تكون مجرد واجهة لقرض يزيد من مديونية الدولة دون معالجة جذرية لمشاكل الفساد والهدر وسوء الإدارة المستشري في قطاع الكهرباء والقطاع العام ككل.

التاريخ المرير لتدخلات البنك الدولي في دول مثل الأرجنتين، اليونان، والعديد من الدول الأفريقية التي أغرقتها “برامج التكيف الهيكلي” في ديون لا تنتهي ودمرت قطاعاتها الإنتاجية تحت شعار “الإصلاح”، كل ذلك يمثّل جرس إنذار للبنان.

الاقتصاد اللبناني والوصاية الخارجية الجديدة

توقيع القرض لا يمكن فصله عن سياق الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق الذي يعصف بلبنان منذ العام 2019. فالبلاد تشهد تدهوراً كارثياً في قيمة عملتها الوطنية، وتجميداً لأموال المودعين في البنوك، وارتفاعاً جنونياً في معدلات التضخم والفقر، وهجرة واسعة للأدمغة والكفاءات. وهذا الانهيار لم يكن مجرد صدفة، بل يُعد نتاجاً لعقود من السياسات الاقتصادية غير المستدامة، والفساد الممنهج، ونظام المحاصصة الطائفية الذي أعاق بناء دولة قادرة ومؤسسات فعالة وفق التقارير اللبنانية التي يتتبعها بقش.

وفي ظل هذا الانهيار، يصبح قطاع الكهرباء رمزاً لفشل الدولة وتراكم الديون. فمليارات الدولارات أُنفقت على هذا القطاع عبر عقود دون تحقيق أي تحسن يذكر، بل تحول إلى بؤرة للهدر والصفقات المشبوهة واستنزاف احتياطيات مصرف لبنان.

والآن، يأتي قرض جديد ليضاف إلى الديون السابقة، دون أي ضمانات حقيقية بأن الأموال ستُستخدم بكفاءة وشفافية، أو أن الإصلاحات الموعودة ستُنفذ بشكل جدي يتجاوز الشكليات التي ترضي الجهات المانحة.

ومما يزيد المشهد قتامة هو الحديث المتزايد عن دور ونفوذ القوى الخارجية في رسم مستقبل لبنان الاقتصادي. فقد جاء تعيين حاكم مصرف لبنان الجديد، “كريم سعيد”، خلفاً للحاكم السابق “رياض سلامة” الذي يواجه اتهامات دولية ومحلية، في ظل ما وصفه محللون بـ”إشراف أمريكي” أو على الأقل مباركة غربية.

ويُنظر إلى هذه الخطوة بعين الريبة، حيث يُخشى أن يكون الحاكم الجديد، رغم تصريحاته الأولية الحذرة، مجرد أداة لتمرير سياسات يمليها صندوق النقد_ لدولي والبنك الدولي، والتي قد تشمل تعويماً كاملاً لسعر الصرف ورفعاً شاملاً للدعم، وهي إجراءات قد تكون ضرورية من منظور مالي بحت حسب قراءة بقش، لكنها ستكون كارثية على المستوى الاجتماعي إذا لم تترافق مع شبكات حماية فعالة ودعم مباشر للفئات الأكثر ضعفاً، وهو ما تفتقر إليه الدولة اللبنانية المنهارة.

في المحصلة، يبدو قرض الكهرباء الجديد فصلاً آخر في مسلسل إخضاع لبنان لشروط الدائنين الدوليين وتعميق أزمته الاقتصادية والاجتماعية.

وبدلاً من البحث عن حلول تنموية حقيقية تعتمد على القدرات المحلية وتعالج جذور الفساد وسوء الإدارة، يتم اللجوء مرة أخرى إلى مسكنات الديون التي تزيد من عبء الأجيال القادمة وترهن قرار البلاد الاقتصادي للخارج. ويبقى السؤال: هل سيتمكن لبنان من كسر هذه الحلقة المفرغة، أم سيستمر في السير على طريق أثبت فشله في العديد من دول العالم، وتبقى الإجابة مرهونة بالمدى القريب من المتغيرات الطارئة على الاقتصاد اللبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى