منوعات
أخر الأخبار

لماذا لم يعد المليون دولار كافياً لتكون ثرياً في هذا الزمن؟

منوعات | بقش

منذ قرنٍ مضى، كان لقب “مليونير” يعني الثراء الأكيد والمكانة المرموقة في قمة الهرم الاقتصادي. أما اليوم، فَقَدَ هذا اللقب كثيراً من بريقه، بعد أن تغيّرت طبيعة الثروة ومصادرها، وباتت المليون دولار في كثير من الحالات مجرد رصيدٍ غير سائل، محجوزٍ في عقاراتٍ أو خطط تقاعدٍ يصعب تحويلها إلى سيولة فورية.

فمع ارتفاع الأسعار والفوائد المصرفية والتضخم المتسارع، تغيّر تماماً مفهوم الثراء في الولايات المتحدة، إذ لم يعد المليون دولار تذكرة دخول إلى طبقة الأغنياء، بل أصبح في أحسن الأحوال كافياً لتأمين حياة متوسطة المستوى.

قبل أكثر من 130 عاماً، وتحديداً عام 1892، أحصت صحيفة “نيويورك تريبيون” نحو 4047 مليونيراً فقط في الولايات المتحدة. أما اليوم، فقد تجاوز عدد الأسر المليونيرة الأمريكية 24 مليون أسرة (أي أسرة من كل خمس أسر أمريكية) وفق تحليل اطلع عليه “بقش” لوكالة “بلومبيرغ” لبيانات عام 2023.

لكن المفارقة أن هذا الارتفاع الهائل في عدد أصحاب الملايين لم ينعكس على شعورهم بالثراء الحقيقي. يعود ذلك إلى طبيعة هذه الثروات، إذ إن أغلبها محجوز في أصول غير سائلة مثل المنازل أو حسابات التقاعد المقيدة بعمر معين لا يمكن الوصول إليها بسهولة.

وقد ساهمت الطفرة في أسعار العقارات والأسهم منذ عام 2017 في تضاعف أعداد المليونيرات، لكنها لم تضمن لهم بالضرورة حرية مالية، لأن القيمة الاسمية للثروة لا تعني السيولة الفعلية. بعبارة أخرى: “المليونير الأمريكي اليوم هو مليونير على الورق فقط”.

أموال محبوسة في الطوب والتقاعد

تشير بيانات عام 2023 إلى أن ما يقارب 66% من ثروات الأسر المليونيرة في الولايات المتحدة مجمدة في منازلهم أو في حسابات التقاعد. هذه النسبة ارتفعت بمقدار 8 نقاط مئوية مقارنة بعام 2017، ما يعني أن الجزء الأكبر من هذه الثروات لا يمكن استخدامه بسهولة لتغطية النفقات أو الاستثمار.

ويقول المستشار المالي أشتون لورانس من شركة “مارينر ويلث أدفايزرز” إن لقب المليونير فقد دلالته القديمة، قائلاً: “كانت كلمة مليونير تعني سابقاً الثراء التلقائي، أما اليوم فهي إنجازٌ رمزيّ، لا يكفي لمعظم الناس لتأمين حياة مريحة”.

حتى بعد خصم الديون، يندر أن يمتلك المليونير الأمريكي مليون دولار نقداً يمكنه التصرف فيه بحرية. أما من يمتلكون ثروات تتراوح بين مليون ومليوني دولار، فغالبية أموالهم عالقة في حسابات تقاعدية أو منازلٍ رئيسية يصعب تسييلها دون تكاليف أو ضرائب باهظة.

يشير تحليل “بلومبيرغ” إلى أن المليونيرات القادرين على الإنفاق بحرية هم فقط من تتجاوز ثرواتهم 5 ملايين دولار، إذ تبلغ نسبة الأصول السائلة لديهم نحو 24%، مقارنة بـ17% فقط لمن تقترب ثروتهم من المليون دولار.

هذه الأرقام توضح أن الفارق بين الثراء الاسمي والثراء الحقيقي أصبح واسعاً، وأن الحرية المالية في زمن التضخم المرتفع تتطلب مضاعفة رأس المال عدة مرات لتأمين نفس مستوى المعيشة الذي كان متاحاً قبل عقدين.

ووفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، فإن متوسط الدخل السنوي للأسرة في الولايات المتحدة عام 2024 بلغ 83,730 دولاراً، بينما بلغ متوسط رصيد حسابات التقاعد 38,000 دولار فقط. وهذا يعني أن امتلاك مليون دولار لا يعني بالضرورة القدرة على التقاعد الآمن، بل مجرد انتقالٍ إلى طبقة ميسورة متوسطة.

الاقتراض أصبح مكلفاً والسيولة نادرة

حتى وقت قريب، كان أصحاب المنازل والأصول قادرين على الاستفادة من ثرواتهم عبر الاقتراض بضمان العقار أو المحفظة الاستثمارية. لكن مع الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة، أصبحت تكلفة الاقتراض باهظة. فقد بلغ متوسط الفائدة على خطوط ائتمان المنازل 7.89% حسب اطلاع بقش، أي ضعف ما كانت عليه عام 2022، فيما تبدأ قروض الهامش لدى شركات الوساطة الكبرى مثل “فيديليتي” و”فانغارد” و”تشارلز شواب” من 10% إلى 11%.

وتقول المستشارة المالية نيكول غوبويان ويريك من شركة “بروسبيريتي ويلث ستراتيجيز”: “عندما ترتفع أسعار الفائدة، وبغض النظر عن قيمة أصولنا، نشعر بانخفاض ثروتنا”. فالسيولة أصبحت عزيزة، والاقتراض لم يعد أداة مريحة، ما يجعل كثيراً من أصحاب الملايين “أثرياء بلا سيولة”.

وكان التوسع في الائتمان خلال العقدين الماضيين عاملاً رئيسياً في شعور الأمريكيين بالثراء، أما اليوم فعودة أسعار الفائدة إلى مستوياتها المرتفعة قلّصت هذا الشعور بشكلٍ جذري.

جيل جديد من المليونيرات الورقيين

يُظهر تحليل “بلومبيرغ” أن توزيع الثروة بين الأجيال المليونيرية ليس متكافئاً. فأصحاب الملايين من جيل طفرة المواليد (مواليد 1946 – 1964) يحتفظون بنحو 37% من ثرواتهم في حسابات التقاعد، بينما تبلغ هذه النسبة لدى جيل الألفية نحو 27% فقط، بسبب دخولهم المتأخر لسوق العمل وضعف فرص الادخار.

ويشير المستشارون الماليون إلى أن أصحاب الملايين من الأجيال الشابة نادراً ما يفكرون في التقاعد أو ترك وظائفهم، لأن التضخم وطول العمر وعبء الضرائب تجعل المليون دولار غير كافٍ للعيش على الدخل السلبي.

ويضيف لورانس: “الناس اليوم بحاجة إلى عشرة ملايين دولار تقريباً ليشعروا بنفس الأمان المالي الذي كان يوفّره مليون دولار قبل عشرين عاماً”. هذه الفجوة بين الأجيال تُبرز أن الثراء لم يعد رقماً، بل منظومة مالية واستثمارية متكاملة تتأثر بالعمر والبيئة الاقتصادية وأسعار الفائدة والضرائب.

المليون لم يعد يشتري حياة الرفاه القديمة

قبل عقد من الزمن فقط، كان امتلاك منزل كبير في نيويورك، وسيارتين فاخرتين، وتعليم جامعي لطفلين، ومنزل عطلات صغير، وقارب ترفيهي، يكلّف حوالي 1.4 مليون دولار. أما اليوم، فقد ارتفعت التكلفة إلى أكثر من 2.1 مليون دولار، أي بزيادة تفوق 50%.

هذا التحول جعل نمط الحياة المترف الذي ارتبط تاريخياً بلقب “المليونير” بعيد المنال حتى عن أصحاب الملايين الجدد. فتكاليف التعليم، والتأمين الصحي، والسكن، والنقل، ارتفعت بوتيرة تفوق نمو الدخل، لتتحول “الثروة المليونية” إلى مجرد هامش أمان اقتصادي، لا وسيلة للرفاه.

ويقول توماس مورفي، كبير المخططين الماليين في شركة “مورفي آند سيلفست لإدارة الثروات”، إن “الكثير من الشباب اليوم يشعرون بالإحباط لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى مستوى المعيشة الذي عاشه آباؤهم، رغم أنهم يجنون مبالغ أكبر. فالمليون دولار لم يعد حلاً، بل نقطة بداية لمعادلة مالية معقدة”.

لم يعد مفهوم “الثراء” مرتبطاً بحجم الثروة المسجلة، بل بقدرة الفرد على إدارة أصوله والسيولة المتاحة لديه في مواجهة متغيرات الاقتصاد العالمي. فالتضخم وأسعار الفائدة والضرائب كلها عوامل تجعل من المليون دولار اليوم أقرب إلى “ضمان بقاء” لا إلى “رمز رفاه”.

كما أن الارتفاع الكبير في تكاليف المعيشة وقيود تسييل الأصول جعل كثيراً من الأثرياء الجدد أقرب إلى فئة “الطبقة المتوسطة العليا” أكثر من كونهم ضمن النخبة المالية. ومن دون سيولةٍ كافية، تصبح الثروة مجرد رقمٍ في دفترٍ مصرفي لا يعبّر عن القوة الشرائية الحقيقية لصاحبه.

وفي النهاية، يبدو أن المليون دولار فقد مكانته كحلمٍ ذهبيّ، وصار مجرد محطةٍ في رحلةٍ أطول نحو “ثراءٍ واقعي” يعتمد على إدارة المال لا على حجمه، وهو ما يعكس بوضوح تحوّل بنية الاقتصاد العالمي، حيث لم يعد الثراء مسألة أرقام، بل مسألة كفاءة واستدامة.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش