
تقارير | بقش
في هذه المرحلة لم تعد التحذيرات صادرةً من الاقتصاديين فقط، بل من أعلى هرم النظام الدولي.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش رفع صوته مجدداً، محذّراً من أن النظام التجاري العالمي القائم على القواعد يقترب من حافة الانهيار، بعدما اجتمعت عليه ثلاث قوى مدمّرة: تضخم الديون، تصاعد الرسوم الجمركية التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتراجع الأمان المالي للدول النامية.
في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في جنيف، وضع غوتيريش إصبعه على الجرح: “ثلاثة مليارات ونصف إنسان يعيشون في دولٍ تنفق على خدمة ديونها أكثر مما تنفق على التعليم أو الصحة”.
عبارة تكشف مفارقة العصر، حيث العالم يفاخر بتقنيات الذكاء الاصطناعي، لكنه يعجز عن تمويل مدارس أطفاله.
وتضاعفت ديون الدول النامية في العقد الأخير حتى بلغت مستويات “غير قابلة للسداد” في بعض الحالات، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وأوضح غوتيريش أن أكثر من 40 دولة باتت تنفق أكثر من نصف موازناتها على فوائد الدين، ما يجعل التنمية حلماً مؤجلاً إلى أجلٍ غير مسمّى.
هذا الاختناق المالي لم يأتِ من فراغ؛ فالنظام الائتماني العالمي، من صندوق النقد الدولي إلى الأسواق المالية، صُمم لخدمة المقرضين لا المقترضين. والنتيجة أن دولاً تُجبَر على تقليص الإنفاق الاجتماعي لتسديد ما تراكم عليها، بينما تتآكل شرعيتها السياسية من الداخل.
ترامب يعيد تعريف التجارة الدولية
على الرغم من أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين هي العنوان الأبرز، إلا أن آثارها امتدت إلى كل القارات.
منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فرضت واشنطن رسوماً جمركية واسعة النطاق وصلت في بعض الحالات إلى 40% على السلع القادمة من دول نامية لا تمثل أكثر من 1% من التجارة العالمية.
قال غوتيريش بوضوح: “الحمائية قد تكون في بعض الحالات حتمية، لكنها على الأقل يجب أن تكون عقلانية”. لكنّ الواقع مختلف؛ فسياسات ترامب لم تراعِ التوازن بين حماية الصناعة المحلية والحفاظ على النظام التجاري الدولي، بل حوّلت التعرفة الجمركية إلى أداة سياسية لمعاقبة الخصوم وكسب النقاط الانتخابية، وهكذا، دخلت التجارة العالمية عصر “الابتزاز الاقتصادي” بدل المنافسة العادلة.
تحدّث الأمين العام عن انعدام الأمان المالي للدول الناشئة، التي تواجه تراجعاً حاداً في الاستثمارات الأجنبية، واضطراباً في سلاسل التوريد، وتكاليف اقتراض فلكية.
الكثير من هذه الدول باتت عالقة في دوامة: تقترض لتسديد القروض القديمة، وتخفض إنفاقها العام لتُرضي المقرضين الدوليين، فيما ترتفع نسب الفقر والجوع عاماً بعد عام.
وأضاف غوتيريش: “نظامنا المالي الدولي لا يوفر شبكة أمان كافية. الفقر قائم، والجوع مستمر، فيما يتجه العالم نحو إنفاقٍ عسكري متزايد”. ويلخص هذا التصريح انهيار ترتيب الأولويات على مستوى الكوكب؛ إذ باتت الدول تنفق على أسلحة الموت أكثر مما تنفق على بقاء شعوبها.
تحولات في خريطة الاقتصاد
من المفارقات التي أشار إليها غوتيريش أن ثلاثة أرباع النمو العالمي تأتي اليوم من الدول النامية، لكنّ هذه الطفرة لا تنعكس على العدالة الاقتصادية. فبينما تزدهر تجارة الخدمات والتقنيات الرقمية، تبقى معظم المكاسب محصورة في الدول الغنية القادرة على تمويل الابتكار واستيعاب التكنولوجيا.
وتواجه الدول الصغيرة “تعريفات جمركية باهظة” تصل إلى 40% على صادراتها البسيطة، في حين تغرق الأسواق المتقدمة في فائض الإنتاج المدعوم سياسياً.
بهذا الشكل، يتحول النظام التجاري الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية تحت راية “الحرية الاقتصادية” إلى نظام انتقائي، يسمح بحرية الحركة لرأس المال، لكنه يقيّد حركة الفقراء.
أمام هذا الواقع، دعا الأمين العام إلى أربع أولويات عاجلة لإنقاذ النظام الدولي من التفكك هي: إنشاء نظام عالمي عادل للتجارة والاستثمار، تمويل مستدام للدول النامية وخفض تكاليف الاقتراض، توجيه التكنولوجيا والابتكار لتحفيز النمو العادل، مواءمة سياسات التجارة مع أهداف المناخ.
كما أعلن عزمه إطلاق منتدى إشبيلية حول الديون لتعبئة تمويل جديد للدول المتعثرة، وتعزيز قدرة بنوك التنمية على الإقراض بثلاثة أضعاف طاقتها الحالية.
خطوات تبدو طموحة، لكنها تصطدم بالواقع السياسي، حيث إن الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، الأطراف التي تملك مفاتيح التمويل والقرار، لا تزال تعيش صراعاتها الخاصة على النفوذ والرسوم.
تحذيرات غوتيريش ليست إنذاراً مالياً فحسب، بل صرخة سياسية ضد هندسة عالمٍ على مقاس القوى الكبرى. ففي الوقت الذي تغرق فيه الدول الفقيرة في الديون، تنشغل القوى الغنية بسباقات الذكاء الاصطناعي والتسلح التجاري، وحين تُصبح التجارة أداة نفوذ، لا شريان حياة، فإن “القواعد” التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية تفقد معناها.
وما حذّر منه غوتيريش ببساطة هو أن النظام الحالي لم يعُد يصلح للقرن الحادي والعشرين: عالمٌ تنتجه يدٌ نامية، وتتحكم فيه يدٌ غنية، ويُدار من عاصمة واحدة تُصدر الرسوم الجمركية كما تُصدر قرارات الحرب، وهو نظام يتنفس المال ويختنق بالعدالة، بينما الإنذار هذه المرة ليس من محللٍ اقتصادي، بل من ضمير الأمم المتحدة نفسه.