مبادرة سعودية-قطرية لسداد ديون سوريا كمدخل لتوسيع الحضور في “الساحة السورية”

في خطوة تحمل أبعاداً مالية وسياسية متشابكة، وتأتي في وقت تتكالب فيه القوى الإقليمية لترسيخ نفوذها على الأرض السورية الممزقة، أعلنت المملكة العربية السعودية ودولة قطر عن تسوية متأخرات سوريا لدى البنك الدولي البالغة قرابة 15 مليون دولار.
هذه المبادرة، التي تم الكشف عنها عقب مناقشات جرت بهدوء على هامش اجتماعات الربيع للمؤسسات المالية الدولية في واشنطن، لا تهدف فقط، كما هو معلن، إلى “دعم وتسريع وتيرة تعافي الاقتصاد السوري”، بل يُنظر إليها على نطاق واسع كجزء من استراتيجية خليجية محسوبة لتوسيع النفوذ وتأمين موطئ قدم في مستقبل سوريا وفق متابعات بقش، وذلك بالتوازي مع التمدد التركي شمالاً والتحركات الإسرائيلية المتكررة التي تعزز قبضتها الأمنية جنوباً، في مشهد يبدو وكأنه سباق محموم لـ”تقسيم الكعكة السورية”.
ومثَّل قرار الرياض و الدوحة بفتح شريان مالي دولي لسوريا، عبر إزالة عائق المتأخرات الذي منع البنك الدولي من العمل هناك لأكثر من 14 عاماً، ورقةً مالية ودبلوماسية هامة. فمن الناحية الفنية، سيمكن هذا السداد سوريا نظرياً من استئناف تلقي الدعم المالي والفني من البنك، وهو أمر حيوي لبلد يعاني اقتصاده من انهيار شامل ومؤسساته من تدمير ممنهج.
لكن الأهمية الاستراتيجية تكمن في توقيت الخطوة ودلالاتها، حيث تسعى الدولتان الخليجيتان لاستعادة دور فاعل في الملف السوري بعد سنوات من التراجع النسبي، مستغلتين الفراغ النسبي والحاجة الماسة لإعادة الإعمار.
سوريا المنهكة: ساحة للتنافس الإقليمي المحموم
تأتي هذه المبادرة الخليجية في وقت تبدو فيه سوريا أشبه بساحة مفتوحة تتصارع فيها أجندات ومصالح قوى إقليمية ودولية متعددة، غالباً على حساب سيادة البلاد ووحدة أراضيها ومستقبل شعبها.
فالاقتصاد السوري، بعد سنوات من الحرب الطاحنة التي قادها نظام الأسد وما تلاها من تداعيات، يقبع في حالة احتضار. البنية التحتية مدمرة، والقطاعات الإنتاجية معطلة، والفقر والجوع يضربان الغالبية الساحقة من السكان، والعملة المحلية فقدت قيمتها بشكل شبه كامل، هذه الحالة من الضعف والهشاشة تجعل البلاد أرضًا خصبة لتدخلات القوى الخارجية التي تسعى لملء الفراغ وتأمين مصالحها طويلة الأمد.
ففي الشمال، تواصل تركيا تعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي والإداري في مناطق واسعة، فارضةً واقعاً ديموغرافياً وسياسياً جديداً يصعب تغييره، ومستخدمةً ورقة اللاجئين والملف الأمني كأدوات لتبرير وجودها وتوسيع سيطرتها.
هذا التمدد التركي الذي يبدو أنه لا يثير قلق دمشق، يمثل أيضاً تحدياً للمشروعات والنفوذ المحتمل للقوى الأخرى، بما فيها الخليجية، في تلك المناطق أو في عموم سوريا.
وفي الجنوب، تواصل إسرائيل ضرباتها الجوية بشكل شبه منتظم داخل الأراضي السورية، وتقوم في الوقت نفسه بتعزيز قبضتها الأمنية وتفرض خطوطاً حمراء في المناطق الحدودية، مستغلةً حالة الضعف السوري لتأمين حدودها الشمالية وربما لتكريس سيطرتها على مرتفعات الجولان المحتلة أو حتى التمهيد لتغييرات أعمق في التوازنات الأمنية بالمنطقة.
وفي هذا السياق المعقد، يمكن قراءة المبادرة السعودية-القطرية كتحرك استراتيجي يهدف إلى موازنة النفوذ التركي، وربما الإسرائيلي بشكل غير مباشر، عبر استخدام الأدوات المالية والدبلوماسية وإعادة بناء العلاقات مع مؤسسات الدولة السورية أو مع القوى المحلية التي قد تظهر في المستقبل.
وقد يكون تسديد ديون البنك الدولي مقدمة لضخ استثمارات خليجية في إعادة الإعمار، مما يمنح الرياض والدوحة نفوذاً كبيراً في تشكيل المشهد الاقتصادي والسياسي السوري المستقبلي، والحصول على حصة وازنة في “كعكة” إعادة الإعمار والمصالح الجيوسياسية.
دعوة للمشاركة أم لتكريس التقسيم؟
دعوة السعودية وقطر للمؤسسات المالية الدولية والإقليمية الأخرى لـ”سرعة استئناف وتوسيع أعمالها التنموية في سوريا” يمكن أن تُقرأ على وجهين. فمن ناحية، هي دعوة ضرورية لتخفيف المعاناة الإنسانية والمساهمة في إعادة بناء بلد مدمر وفق التحليلات التي تتبعها بقش.
ومن ناحية أخرى، وفي ظل غياب عملية سياسية شاملة وحل مستدام للصراع، قد تساهم هذه الدعوة، إذا تمت تلبيتها بشكل غير منسق أو مرتبط بأجندات خارجية متنافسة، في تكريس حالة الانقسام والتبعية للخارج، حيث تصبح المساعدات والاستثمارات أدوات لتعزيز نفوذ هذه القوة أو تلك في منطقة معينة، مما يعمق من شرذمة البلاد ويجعل تحقيق “طموحات الشعب السوري الشقيق لمستقبل واعد” أكثر صعوبة.
في المحصلة، تمثل الخطوة السعودية-القطرية تطوراً هاماً في الملف السوري، لكنها تظل محاطة بالتعقيدات والشكوك حسب قراءات بقش. فبينما تفتح الباب أمام إمكانية تخفيف العزلة المالية ودعم التعافي الاقتصادي، فإنها تأتي في سياق تنافس إقليمي محموم على النفوذ، حيث تسعى كل قوة لضمان مصالحها في سوريا المستقبل.
ويبقى السؤال الأساسي هو ما إذا كانت ستُستخدم هذه الأدوات المالية لخدمة الشعب السوري وتحقيق الاستقرار الحقيقي، أم أنها ستكون مجرد فصل جديد في صراع القوى الإقليمية على “تقسيم الكعكة السورية” المنهكة.