الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

الصين تقلب موازين التجارة العالمية: فائض قياسي في التصدير رغم الرسوم الأمريكية يربك واشنطن

الاقتصاد العالمي | بقش

بحسب تقرير موسع لوكالة بلومبيرغ، فإن الصين تتجه هذا العام لتحقيق فائض تجاري ضخم يقترب من 1.2 تريليون دولار، وهو الأعلى في تاريخها، متجاوزة بذلك كل التقديرات السابقة التي توقعت أن تؤدي الرسوم الجمركية الأمريكية إلى تقليص صادراتها للنصف.

هذه الأرقام تعكس واقعاً مغايراً تماماً لما روجت له إدارة ترمب في واشنطن، فرغم دخول الرسوم العقابية التي وصلت نسبتها إلى أكثر من 145% على بعض السلع الصينية حيز التنفيذ منذ خمسة أشهر، إلا أن قدرة بكين على التكيف وإعادة توجيه صادراتها أظهرت أن الولايات المتحدة لا تمتلك وحدها مفاتيح اللعبة التجارية كما كان في العقود الماضية.

ففي أغسطس وحده، قفزت المشتريات الهندية إلى مستوى تاريخي بلغ 12.5 مليار دولار، فيما ارتفعت الشحنات إلى أفريقيا بأكثر من ثلاثة أضعاف لتقترب من رقم قياسي سنوي وفق متابعة مرصد بقش. أما أسواق جنوب شرق آسيا، فقد تجاوزت ذروة ما بعد الجائحة لتصبح أحد أهم منافذ الصين البديلة عن السوق الأمريكية. هذا الزحف الاقتصادي دفع مراقبين للقول إن “بكين لا تصدّر بضائع فقط، بل تصدّر استراتيجيات بقاء طويلة المدى”.

بحسب اطلاع “بقش” على تحليل بلومبيرغ، فإن بكين اعتمدت على استراتيجية مزدوجة: خفض قيمة اليوان وإعادة توجيه سلاسل الإنتاج. تراجع سعر الصرف الفعلي لليوان إلى أضعف مستوى له منذ عام 2011، مما منح الصين قدرة إضافية على امتصاص الضربة الجمركية وتعويض فارق الأسعار في الخارج.

إلى جانب ذلك، أعادت بكين ترتيب سلاسل الإمداد بذكاء بالغ. فعلى سبيل المثال، تحولت بعض خطوط إنتاج شركة “أبل” إلى الهند لتجنب الرسوم، لكن غالبية المكونات الأساسية ما تزال تُصنع في الصين. هذا يعني أن القيمة المضافة بقيت محصورة في الاقتصاد الصيني، ما سمح له بالاستفادة من كل عملية تصنيع حتى لو تم استبدال مكان التجميع.

هذه المرونة أكدت أن بكين لم تعد أسيرة السوق الأمريكية، بل باتت قادرة على تدوير العجلة التجارية عبر أسواق بديلة، وهو تحول نوعي يضعف ورقة الضغط الأمريكية التقليدية.

العالم في حيرة: كيف يرد على الطوفان الصيني؟

تشير بلومبيرغ إلى أن ردود الفعل الدولية جاءت متباينة ومليئة بالحذر. المكسيك وحدها لوحت بإجراءات قوية عبر فرض رسوم تصل إلى 50% على السيارات والصلب الصيني، لكن دولاً أخرى فضلت التريث. جنوب أفريقيا على سبيل المثال، نصحت بعدم فرض رسوم عقابية على صادرات السيارات الصينية التي تضاعفت خلال 2025، وفضلت جذب الاستثمارات الصينية بدلاً من التصادم معها.

في أمريكا اللاتينية، ورغم الانتقادات الشعبية، قررت حكومات مثل تشيلي والإكوادور الاكتفاء بفرض رسوم محدودة على بعض الواردات الصينية الرخيصة، خاصة بعد الانتشار السريع لمنصة “تيمو” التي ارتفع عدد مستخدميها النشطين بنسبة 143% منذ يناير. أما البرازيل، فقد منحت شركة بي واي دي فترة إعفاء ضريبي كامل لتسريع بناء مصنع ضخم في مدينة كاماساري.

هذا المشهد يعكس أن معظم العواصم، رغم قلقها من الإغراق الصيني، تدرك أن بكين تمثل شرياناً أساسياً لاقتصاداتها. ولذلك فإن خيار المواجهة المباشرة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم ما زال محفوفاً بمخاطر سياسية واقتصادية لا يرغب أحد في خوضها.

قطاع السيارات الكهربائية: رأس حربة الصين الجديد

من أبرز مظاهر التمدد الصيني كان قطاع السيارات الكهربائية، الذي تحوّل إلى ساحة صراع اقتصادي مباشر مع أوروبا وأمريكا. ووفق أرقام بلومبيرغ، فقد صدّرت شركات مثل بي واي دي ونيو وإكس بنغ مركبات كهربائية بقيمة تجاوزت 19 مليار دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من 2025، وهو ما يعادل تقريباً صادرات العام الماضي كاملة.

ورغم القيود الأوروبية التي فُرضت في أكتوبر 2024، بقيت أوروبا السوق الأكبر للسيارات الكهربائية الصينية. اللافت أن البرازيل، التي كانت تفكر في فرض رسوم عقابية، منحت إعفاءً كاملاً لبي واي دي لتوسيع إنتاجها المحلي، ما يعكس تناقضاً بين خطاب الحماية وممارسة استقطاب الاستثمارات.

هذا القطاع تحول إلى رأس حربة جديد في معركة الصين التجارية. فبينما تعاني شركات أوروبية وأمريكية من ارتفاع الكلفة وصعوبة مواكبة الطلب، تواصل بكين ضخ منتجاتها بأسعار تنافسية لا تقاوم، ما يجعلها تضع نفسها على رأس سباق السيطرة على مستقبل النقل العالمي.

وحسب ما رصده “بقش”، فإن الصين لم تكتف بالتصعيد الاقتصادي، بل دعمت توسعها عبر دبلوماسية ناعمة مصحوبة بتهديدات مدروسة. ففي قمة “بريكس” الأخيرة، دعا الرئيس شي جين بينغ الدول الأعضاء إلى “موقف موحد ضد الحمائية”، في إشارة واضحة إلى الرسوم الأمريكية.

هذا المزج بين الترغيب والترهيب سمح للصين بإحباط محاولات بناء جبهة موحدة ضدها، وأبقى معظم الدول في حالة تردد وحذر، الأمر الذي اعتبرته بلومبيرغ نجاحاً استراتيجياً لبكين في تثبيت موقعها كقوة تجارية لا يمكن مواجهتها إلا بتكتلات كبرى.

لكن خلف هذه النجاحات، يكمن واقع داخلي هش. فوفق بيانات رسمية طالعها بقش لدى بلومبيرغ، تراجعت أرباح الشركات الصناعية الصينية بنسبة 1.7% في الأشهر السبعة الأولى من 2025، فيما تتزايد الضغوط الانكماشية لتسجل البلاد أطول فترة تراجع سعري منذ بدء سياسة الانفتاح في السبعينيات.

أزمة العقارات التي عصفت بالبلاد منذ سنوات ما تزال مستمرة، في وقت يشهد فيه المجتمع الصيني شيخوخة متسارعة تقلل من حجم القوة العاملة، ما يضع عبئاً إضافياً على الحكومة.

صحيفة “الشعب” الصينية حاولت الرد على الانتقادات الغربية، مؤكدة أن الصادرات “لا تباع بأقل من التكلفة”، لكن الواقع يشير إلى أن سياسة الإغراق أصبحت ضرورة للحفاظ على عجلة الإنتاج، حتى لو كان ذلك على حساب هوامش الربح الداخلية.

ما قبل قمة شي وترمب: مواجهة مفتوحة

ترى بلومبيرغ أن هذه التطورات تضع العالم على أعتاب مواجهة مفتوحة بين الصين والولايات المتحدة. الرئيس شي جين بينغ يحاول عبر الفائض التجاري الضخم أن يرسل رسالة مزدوجة: أن الصين قادرة على الصمود داخلياً، وأن الرسوم الأمريكية لم تنجح في تقويض قوتها التصديرية.

اللقاء المرتقب بين شي وترمب في كوريا الجنوبية قد يشكل لحظة فاصلة في مستقبل الحرب التجارية. إدارة ترمب تضغط على دول “الناتو” لفرض رسوم تصل إلى 100% على الصين بحجة دعمها لروسيا، لكن معظم الدول ما تزال مترددة في الاصطفاف خلف واشنطن خوفاً من رد انتقامي من بكين.

وباطلاع بقش على تقييمات بلومبيرغ إيكونوميكس، فإن نجاح الصين في تأمين أسواق بديلة يعني أن الرسوم الأمريكية قد تفقد فعاليتها تدريجياً، ما سيجبر واشنطن على البحث عن أدوات جديدة أكثر تكلفة وربما أكثر خطورة.

الصين اليوم لا تواجه الرسوم الأمريكية فحسب، بل تعيد صياغة خريطة التجارة العالمية بأكملها. فائض قياسي، توسع في الأسواق الناشئة، وطفرة في قطاع السيارات الكهربائية، كلها مؤشرات على أن بكين تجاوزت مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم الاستراتيجي. لكن في المقابل، يبقى اقتصادها الداخلي هشاً، ما يجعل المواجهة المقبلة بين واشنطن وبكين ليست مجرد حرب رسوم، بل معركة وجودية على مستقبل الاقتصاد العالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش