الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

مصافٍ سرية في حضرموت: شبكة منظمة لنهب النفط تكشف سطوة النفوذ

الاقتصاد اليمني | بقش

كشفت التطورات الأخيرة في وادي وصحراء حضرموت عن واحدة من أخطر قضايا الفساد المنظم المرتبطة بالثروة النفطية في اليمن، وهي قضية عَكَست منظومة متكاملة تبدأ من إنتاج النفط، مروراً بتهريبه، ثم تكريره بطرق بدائية غير قانونية، وانتهاءً ببيعه في سوق سوداء مفتوحة، في ظل صمت رسمي طويل وفشل مؤسسي مزمن.

في منطقة الخشعة بمديرية وادي العين، أُعلن عن ضبط مصافٍ نفطية سرية ومحطات تكرير عشوائية، في عملية وُصفت بأنها تندرج ضمن العبث المنظم بالثروة السيادية. ووفقاً لمصادر عسكرية وأمنية، نفذت قوات جنوبية مداهمة لمزارع في المنطقة، أسفرت عن اكتشاف ثلاث محطات تكرير بدائية، مع تداول لاحق لمعلومة ضبط أربع محطات، تقوم بتصفية النفط الخام واستخراج البنزين والديزل والزيوت والأسفلت، وبيعها في السوق المحلية دون أي تصاريح أو إشراف رسمي.

وحسب متابعة “بقش”، بثّت منصات إعلامية مشاهد تشير إلى أن هذه المصافي تعمل بطرق بدائية خارج أي إطار قانوني أو رقابي، وتشكل خطراً اقتصادياً وبيئياً وأمنياً بالغاً.

شبكات الإمداد والتهريب

كشفت التحقيقات الأولية مع القائمين على المصافي، التي تعود ملكية إحداها لشخص من محافظة ذمار، عن وصول شاحنات نفط خام بشكل منتظم عبر وسطاء ومهربين قادمين من شبوة ومأرب، حيث يتم تفريغ الحمولة وتكريرها وتسويقها علناً.

وقالت المصادر إن انتشار القوات الجنوبية في المنطقة أدى إلى قطع خطوط الإمداد وتوقف حركة القاطرات المهربة بشكل شبه كامل.

في موازاة ذلك، أفاد الصحفي الاقتصادي ماجد الداعري بمعلومات تشير إلى أن بعض هذه المصافي العشوائية تعتمد على آبار نفط خاصة بها في منطقة الخشعة ومناطق أخرى، بينما تحصل مصافٍ أخرى على النفط الخام من صافر مأرب، ليُكرَّر ثم يُحمَّل على قاطرات ويباع في الأسواق السوداء، مع تقاسم يومي لعوائد مالية ضخمة، في مشهد علّق عليه بأن “ما خفي أعظم وأكثر فساداً وعبثاً بموارد ومقدرات البلد”.

وأورد ناشطون محسوبون على المجلس الانتقالي، أن ما وُصفت بـ”فضيحة مصافي الخشعة” مرتبطة بقيادات سياسية وعسكرية محسوبة على الإصلاح داخل الشرعية، وأنها سبب من أسباب إصرارهم على البقاء في وادي حضرموت لحماية شبكات نهب خاصة لا علاقة لها بالدولة ولا بخزينتها، وفقاً للناشطين.

وأثار ضبط هذه المصافي موجة جدل واسعة، وسط تداول معلومات موثقة عن تهريب آلاف البراميل يومياً من النفط الخام من حضرموت ومأرب خارج القنوات الرسمية، بخسائر تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات سنوياً.

وذكر الخبير الجيولوجي الدكتور عبدالغني جغمان أن ما يجري ليس ظاهرة عشوائية ولا نتاج حرب فقط، بل نتيجة مباشرة لفشل مؤسسي تقف في قلبه وزارة النفط والجهات المرتبطة بها، وبيّن أن معطيات متداولة في مأرب تشير إلى خروج أكثر من 5,000 برميل نفط خام يومياً من الحقول، ليس خلسة، بل بتوجيهات من السلطة المحلية
أو بأوامر من قيادات رفيعة في الشرعية تقيم في السعودية.

ويُوجَّه هذا النفط إلى مصافٍ بلدية داخل المحافظة تعمل بشكل شبه علني، وتغذي السوق بالديزل خارج أي إطار شفاف.

أما في حضرموت، وتحديداً منشآت بترومسيلة، فقد تم كشف كميات تصل إلى 10,000 برميل نفط خام تخرج بطرق غير قانونية، وهو ما أُقِرّ به رسمياً من نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي اللواء فرج البحسني، بعد أن بدأ الكشف عبر ناشطين محليين، ما أدى إلى ظهور وانتشار مصافٍ بلدية في المكلا ومناطق أخرى، وصولاً إلى ما كُشف عنه مؤخراً في الخشعة.

ويشير جغمان إلى أن تباين أسعار الصرف، واختلاف أسعار المشتقات النفطية بين المحافظات، وغياب سياسة تسعير وطنية موحدة، خلق سوقاً سوداء ضخمة مفتوحة بلا سقف. وفي هذه البيئة، تحولت المصافي البلدية إلى تجارة رائجة، خصوصاً مع ارتفاع الطلب على الديزل كمصدر رئيسي لتشغيل مولدات الكهرباء.

تحرك قضائي

في تطور لاحق، ووفق بيان اطلع عليه مرصد “بقش”، وجّهت النيابة العامة رئيس نيابة استئناف الأموال العامة بمحافظة حضرموت بفتح تحقيق شامل وعاجل في محطات التكرير العشوائية المكتشفة في الخشعة.

شددت النيابة العامة على توسيع التحقيق ليشمل القائمين على التشغيل، والممولين، والداعمين، والمتسترين، وأي موظف عام أو جهة يثبت تورطها أو تقصيرها أو تسهيلها.

وذكرت النيابة العامة أن هذه الأنشطة تُعد جرائم جسيمة تمس المال العام مباشرة، وتشكل تهديداً خطيراً للاقتصاد الوطني والسلامة العامة والبيئة وصحة المواطنين، مع التشديد على موافاة النائب العام بنتائج التحقيق أولاً بأول، وعدم التهاون مع أي ممارسات تمس المال العام أو أمن المجتمع.

المصافي الرديئة التي غزت حضرموت

وكان مرصد “بقش” تناول هذا الملف في وقت سابق من هذا العام، حيث تكشفت قضايا تهريب النفط على إثر اكتشاف أنبوب نفطي غير قانوني يربط منشآت شركة “بترومسيلة” في ميناء الضبة بوحدة التكرير في محطة الريان، وظهور مصافٍ نفطية مخالفة للمواصفات وسط أحواش ومزارع بالمحافظة، ليصبح المشهد مزدحماً بخلافات بين مكونات السلطة والقبائل التي تطالب هي الأخرى بتحسين أوضاع السكان وتمكينهم من عوائد الثروات.

فمن خلال زيارة للواء فرج البحسني، عضو المجلس الرئاسي، تفجرت قضية عمليات نهب واسعة للنفط الخام من خزانات ميناء الضبة في حضرموت، وعمليات سحب نفطي بصورة غير قانونية تحت غطاء توفير وقود لـ”محطة كهرباء الريان”.

وكُشف عن وجود مصاف غير قانونية وبها العديد من الخزانات الكبيرة في ساحل حضرموت وكذلك وجود أنبوب من منشآت ميناء الضبة إلى أحد الأحواش المجاورة.

وأثار “الاختلاس النفطي” والتكرير السرّي لكميات من الخام أثار جدلاً حاداً في المحافظة التي يطالب أبناؤها بثرواتهم النفطية وإشراكهم رسمياً في تقرير مصيرها، وحينها بدا محافظ المحافظة السابق، مبخوت بن ماضي، متهماً بشكل غير مباشر من جانب عضو المجلس الرئاسي فرج البحسني.

وكانت تقارير بقش أشارت إلى وجود كثير من المصافي السرية الصغيرة والرديئة في المحافظة، منها ما تم تفكيكه قبل اكتشافه.

وتشبه هذه المصافي إلى حد كبير مصافي النفط الصغيرة في الصين التي يطلق عليها اسم “أباريق الشاي”، والتي تتعامل مع كميات نفط مهربة، مثل صادرات النفط الإيراني، بسبب توقف المصافي الصينية المملوكة للدولة الصينية عن التعامل رسمياً مع الإمدادات الإيرانية.

هذا ويكشف مجمل هذه الوقائع أن ما يحدث يمثل فساد شبكات رسمية الطابع تتداخل فيها مؤسسات مدنية مع قيادات عسكرية منتفعة، في ظل إفلات شبه كامل من المحاسبة. وهو ما يعني عملياً استنزافاً ممنهجاً لثروات البلاد، وتكريس اقتصاد الحرب والسوق السوداء، وتقويض أي أمل بإصلاح مؤسسي أو استقرار اقتصادي.

وخلال ذلك يبقى السؤال الجوهري: هل تنجح التحقيقات الجارية في تفكيك هذه الشبكات، أم تُضاف هذه القضية إلى سجل طويل من الفضائح المؤجلة، فيما يستمر النفط، الذي كان يفترض أن يكون رافعة حياة اقتصادية، وقوداً للفوضى والحرمان؟

زر الذهاب إلى الأعلى