
تقارير | بقش
في سياق استمرار تعرُّض القطع الأثرية اليمنية النادرة للنهب والتهريب المنظم في ظل غياب كامل للرقابة الحكومية الفاعلة، كُشف عن عرض مجموعة من التحف اليمنية النادرة للبيع في مزاد “القطع التاريخية النادرة حول العالم” في العاصمة النمساوية “فيينا” بتاريخ 21 نوفمبر 2025، بقيم مالية تصل لمئات الملايين من الدولارات.
وتتضمن التحف آثاراً تعود لحقب تاريخية تمتد من القرن العاشر قبل الميلاد وحتى القرن الثالث الميلادي، ومن أبرزها بروتوم ثور من المرمر، كان جزءاً من مجموعة فرنسوا أنتونوفيتش، وقد سبق لليمن أن استعاد 16 قطعة من هذه المجموعة.
إضافةً إلى رأس منحوت من المرمر، بيع في مزاد سابق (2023) ويعود جزء كبير منه إلى محافظة الجوف، حيث تنتشر عمليات الحفر غير القانونية للمواقع الأثرية، وتمثال أميرة من مملكة سبأ يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد ويستمر حتى عام 275م، مستمدة من مواقع محافظة مأرب، ولوح برونزي عليه نقوش بخط المسند، عرض سابقاً في التسعينيات بسوق لندن.
ووفق اطلاع بقش على ما نشره باحث الآثار اليمنية، عبدالله محسن، فإن “رؤوس المرمر” مزودة بالجبس ومثبتة على لوحات من الحجر الجيري، وتُستخدم كعلامات قبور أو مكونات للآثار الجنائزية، وتحوي تجاويف عيون وحواجب كبيرة يمكن ترصيعها بالزجاج أو اللازورد، وهي سمات موثقة على رؤوس جنوب شبه الجزيرة العربية في المتحف البريطاني.
وتذهب التقديرات إلى أن أكثر من 23 ألف قطعة أثرية يمنية لا تزال خارج سلطة الدولة، بين تماثيل وشواهد جنائزية ونقوش وبرونزيات وعملات وحلي، معظمها في أسواق عالمية أو مجموعات خاصة، ما يعكس حجم الفقد الكبير للتراث اليمني.
الأهمية التاريخية والاقتصادية
تلعب هذه القطع الأثرية دوراً بارزاً في فهم تاريخ اليمن القديم وحضاراته، خاصة مملكة سبأ ومملكة قتبان.
وكانت مملكة سبأ القديمة تتحكم في طرق البخور والمر من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأبيض المتوسط، مستفيدة من الجمارك والتجارة التي أقرتها المعابد لتزويد الأسواق الرومانية والنبطية والمصرية، ومرّت بفترات صعود وقوة الحميريين وحملات رومانية فاشلة (مثل حملة إيليوس غالوس 26-24 قبل الميلاد) وفقاً لمحسن.
وأشار إلى أن مملكة قتبان ظهرت في وادي بيحان، وامتدت أراضيها شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، ومن ذمار شمالاً إلى البحر العربي جنوباً. خاضت حروباً ضد حضرموت، وادعى القتبانيون تدمير أكثر من 300 مدينة تابعة لحضرموت، وعرفت مراكزها الدينية والثقافية ازدهاراً كبيراً، كما يظهر من اكتشاف معبد يشهل في تمنع، الذي يعود تاريخه إلى الفترة بين القرون الثلاثة قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد، ويصل طوله إلى 23.5 متراً.
وتُظهر هذه الاكتشافات أن اليمن كان مركزاً استراتيجياً للتجارة والثقافة في جنوب الجزيرة العربية، وأن الحضارات اليمنية القديمة أسست نظم إدارة وقوانين تجارية ودينية متقدمة، لا تزال آثارها باقية في المسلات والنقوش.
نهب الآثار وتهريبها
وازدادت عمليات التهريب المنظم خلال الحرب التي بدأت في 2015، حيث بات تجار الآثار المحليون والدوليون، بالتعاون مع سماسرة محليين، قادرين على استغلال الفراغ الأمني للوصول إلى مواقع أثرية في مأرب وشبوة والجوف وإب، واستخدام وسائل مثل الجرافات للتنقيب عن القطع الثمينة والعملات الذهبية.
ويشمل النهب المواقع الأثرية الكبرى، منها تمنع في وادي بيحان مركز الدولة القتبانية وقوانين التجارة والضرائب الأولى في العالم قبل أكثر من 3 آلاف سنة، وشبوة القديمة عاصمة حضارات كبرى تعرضت لتجريف واسع، ومواقع أخرى في مأرب والجوف وإب تحتوي على شواهد وتماثيل جنائزية، تعكس فنون النحت والتجارة والتقديس الديني للحضارات اليمنية القديمة.
في هذه الأثناء لا تزال حكومة عدن غائبة عن حماية التراث، فضعف الحماية الأمنية شجع على تجريف المواقع ونهبها بصورة ممنهجة.
وحسب قراءة بقش، لا يتدخل المسؤولون بشكل فعال لمنع عمليات السرقة، كما أن استعادة القطع المنهوبة مرهونة بمدى قدرة السلطات على التعامل مع التحديات الداخلية المعقدة، وهو أمر صعب في ظل أوضاع الحرب والاضطراب السياسي.
ويشير الوضع الراهن إلى أن نهب الآثار اليمنية يمثل فقداناً للهوية الحضارية والتاريخية لليمن، مع غياب الدولة عن حماية التراث وغياب التشريعات الفاعلة والرقابة الأمنية، ما جَعَل اليمن ساحة خصبة لتجار الآثار، ما أدى إلى ضياع آلاف القطع التاريخية التي تؤرخ لأعرق الحضارات الإنسانية في جنوب شبه الجزيرة العربية.
وتتطلب استعادة هذه القطع وحماية المواقع الأثرية سياسات وطنية ودولية عاجلة، وإجراءات متقدمة للتوثيق والمراقبة، قبل أن تذهب كنوز اليمن إلى الأسواق العالمية إلى الأبد.


