الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

تحرك جديد لبنك عدن المركزي: لا مزيد من الرواتب بالعملة الصعبة بسبب استمرار الحظر على تصدير النفط

الاقتصاد اليمني | بقش

يشهد الاقتصاد اليمني في مناطق حكومة عدن واحدة من أعقد أزماته منذ سنوات، أزمة لم تُصنع بين ليلة وضحاها، بل تراكمت بفعل الفساد والسياسات المالية المرتجلة والقرارات الخاطئة التي أضعفت الثقة بالعملة المحلية وأفقدت السوق توازنه، فالمشهد اليوم لا يتمثل فقط في تراجع قيمة الريال أو تقلبات أسعار السلع، بل في أزمة بنيوية أعمق تتعلق بكيفية إدارة الموارد العامة وتوزيعها.

على هذه الأرضية، جاءت تحليلات خبراء الاقتصاد التي تكشف جذور الانهيار بعيداً عن الخطاب الرسمي، كان آخرها ما نشره الخبير الاقتصادي “ماجد الداعري”، الذي حمّل استمرار صرف رواتب كبار المسؤولين بالعملة الصعبة مسؤولية مباشرة عن استنزاف النقد الأجنبي، في وقت يفتقر فيه الاقتصاد إلى أبسط مقومات الاستقرار، هذا العامل، إلى جانب توقف صادرات النفط والانقسام النقدي بين صنعاء وعدن، شكّل مثلثاً خانقاً عمّق الأزمة وجعل المواطن هو الضحية الأولى.

وفي منشور لافت، حذّر “الداعري” من أن استنزاف الاقتصاد اليمني في مناطق حكومة عدن لم يكن نتيجة المضاربات وحدها، ولا مجرد انعكاس لتقلبات أسعار الصرف، بل نتاج مباشر لسياسات مالية خاطئة استمرت لسنوات طويلة، وفق اطلاع مرصد بقش.

أبرز هذه السياسات – بحسب الداعري – تمثلت في صرف رواتب كبار المسؤولين والقيادات العسكرية والأمنية بالعملات الصعبة (الدولار الأمريكي والريال السعودي)، في وقت ظل فيه غالبية الموظفين يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلية التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها منذ بداية الحرب.

نزيف العملة الأجنبية عبر الرواتب

هذا التمييز في الرواتب لم يكن مجرد مفارقة إدارية، بل تحوّل إلى نزيف شهري مستمر من النقد الأجنبي النادر. فالحكومة في عدن كانت تُلزم الخزينة العامة بدفع ملايين الدولارات والريالات السعودية شهرياً لشريحة محدودة من المسؤولين، فيما السوق يعاني من شح حاد في السيولة الأجنبية لتمويل الواردات أو تغطية التزامات أساسية.

ووفقاً لخبراء، فإن هذا التوجه ساهم في إضعاف الاحتياطي النقدي وأجبر التجار والمستوردين على البحث عن الدولار في السوق السوداء بأسعار أعلى، ما انعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات.

لم يتوقف هذا النزيف إلا حين فرضت حكومة صنعاء في أواخر 2022 حظراً شاملاً على تصدير النفط الخام من موانئ شبوة وحضرموت. النفط الذي كان يشكل أكثر من 70% من إيرادات حكومة عدن، كان هو المصدر شبه الوحيد لتوفير النقد الأجنبي اللازم لصرف هذه الرواتب الصعبة.

ومع توقفه، وجدت الحكومة نفسها عاجزة عن الاستمرار في تغطية التزاماتها، فانكشفت هشاشة بنيتها المالية، وظهر جلياً أن الاعتماد على إيرادات النفط دون بدائل حقيقية لم يكن سوى مسار قصير الأجل نحو الانهيار.

سوق مرتبك وأسعار تهبط بوتيرة بطيئة

رغم أن العملة شهدت في أغسطس 2025 تحسناً نسبياً في عدن بنسبة بلغت 43%، إلا أن هذا التحسن لم يُترجم إلى تراجع موازٍ في الأسعار. ووفق متابعات “بقش”، فقد انخفضت أسعار بعض السلع بنسب بين 15% و35%، لكن أسعار الخبز والأدوية والسلع الأساسية بقيت مرتفعة.

شركات ومخابز اتُهمت بالمغالاة، فيما ردّت باتهام الوكالات والهيئات الرسمية بعدم إقرار أسعار جديدة متناسبة مع سعر الصرف. النتيجة كانت فجوة واسعة بين تحسن الصرف من جهة، وبقاء أسعار السوق عند مستويات مرهقة للمستهلك من جهة أخرى، ما دفع إلى موجة احتجاجات شعبية متكررة.

في مواجهة هذا الاضطراب، كثّف البنك المركزي في عدن حملاته لإغلاق شركات صرافة مخالفة وسحب تراخيصها، في محاولة لكبح المضاربة والتلاعب. غير أن الداعري يرى أن هذه الحملات لن تعالج المشكلة البنيوية، فـ”أكثر من 80% من شركات ومنشآت الصرافة بُنيت على المضاربات وغسل الأموال”، ما يعني أن الرقابة وحدها لن تعيد الثقة ما لم تُصحح جذور الخلل، بل ويذهب إلى التحذير من أن بعض هذه الشركات قد تواجه عقوبات دولية بتهم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يعجز البنك المركزي في عدن عن احتوائه.

انقسام نقدي يضاعف التكاليف

الأزمة تزداد تعقيداً مع استمرار الانقسام المالي بين صنعاء وعدن منذ 2016. وجود بنكين مركزيين وسياسات نقدية متناقضة خلق سوقين مختلفتين للعملة المحلية: سعر الدولار عند حدود 535 ريالاً في صنعاء، مقابل أكثر من 1600 ريال في عدن.

هذا التباين جعل حركة التجارة الداخلية أكثر صعوبة، وأجبر التجار على اللجوء للسوق السوداء لتحويل الأموال بين الشطرين، ما ضاعف التكاليف ورفع الأسعار. التعميمات الأخيرة من بنك صنعاء بمنع أي تعامل مالي رسمي مع عدن في ما يخص توفير العملة الأجنبية للاستيراد زادت من حدة الانقسام، وحرمت حكومة عدن من تدفقات مالية كانت تمر عبرها.

كل هذه المعطيات تكشف أن ما يجري ليس مجرد أزمة سعر صرف يمكن علاجها بحملات أمنية أو تدخلات ظرفية. فغياب بدائل اقتصادية حقيقية، واعتماد حكومة عدن الكلي على النفط كرافعة مالية، ثم تخصيص إيراداته لصرف رواتب بالعملة الصعبة لشريحة محدودة من المسؤولين، كلها سياسات أضعفت الاقتصاد المحلي وأفقدت السوق الثقة وفق تحليلات بقش. وحتى الودائع والمنح الخارجية التي عوّلت عليها الحكومة جاءت متقطعة ومشروطة، ولم ترقَ إلى مستوى إحداث استقرار مستدام.

المحصلة النهائية أن المواطن اليمني يبقى الخاسر الأكبر في هذه المعادلة. فبينما كان كبار المسؤولين يتقاضون رواتبهم بالدولار والريال السعودي، ظل المواطن يتقاضى راتباً بالريال المحلي لا يكفي لتغطية أبسط متطلبات المعيشة.

ومع توقف النفط واستمرار الانقسام النقدي، يزداد العبء على المستهلكين الذين يواجهون أسعاراً مرتفعة وخدمات متدهورة دون أي أفق لإصلاح حقيقي.

قراءة الداعري، وما تكشفه تقارير “بقش”، توضح أن الأزمة الحالية ليست مجرد أزمة سيولة أو اضطراب صرف عابر، بل أزمة بنيوية في إدارة الموارد والسياسات المالية. صرف الرواتب بالعملة الصعبة على حساب الاقتصاد الوطني، والاعتماد الكلي على النفط دون تنويع، ثم الانقسام النقدي بين صنعاء وعدن، كلها عوامل جعلت الاقتصاد رهينة مسارات قصيرة الأجل انتهت إلى طريق مسدود. ومن دون معالجة هذه الجذور، ستظل أي حلول مجرد مسكّنات، بينما يستمر النزيف وتتعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش