مناصرة غزة تجتاح أوروبا وتصل إلى أطراف الكوكب في ظل صمت وتخاذل عربي-إسلامي.. الاقتصاد والسياسة والإنسان في لحظة اختبار

تقارير | بقش
شهدت مدن أستراليا اليوم الأحد موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات ضد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. في ملبورن، التي تحولت إلى قلب الحراك، انطلقت مسيرة ضخمة من أمام مكتبة ولاية فيكتوريا باتجاه البرلمان، وصفت بأنها الأكبر منذ عقود. رفع المحتجون الأعلام الفلسطينية وصور الأطفال الذين قُتلوا تحت القصف، ولافتات تصف ما يجري في القطاع بـ”الإبادة”. كما رفعت صور لصحفيي الجزيرة الذين استهدفتهم إسرائيل مرفقة بشعار “الصحافة ليست جريمة”.
الهتافات طالبت الحكومة الأسترالية بطرد السفير الإسرائيلي ووقف صفقات السلاح وفق اطلاع بقش، في وقت يعتبر فيه المنظمون أن الموقف الرسمي صامت ومتواطئ. ورغم محاولات الشرطة تنظيم المسيرات، فإن عشرات الآلاف تدفقوا إلى الشوارع، واعتبر الناشطون أن حجم المشاركة تجاوز كل التوقعات.
لم يقتصر المشهد على ملبورن، بل امتد إلى سيدني وبريزبن وأديلايد وبيرث وكانبرا. خرجت مسيرات متزامنة رفعت شعارات العدالة للفلسطينيين وإنهاء الحصار على غزة. المنظمون أكدوا أن التحرك جزء من خطة طويلة تشمل التواصل مع نواب البرلمان وهيئات حقوقية دولية لممارسة ضغط سياسي واقتصادي مستمر.
شهادات المتظاهرين عكست بعداً إنسانياً واسعاً، طلاب ونقابيون وصحفيون ومواطنون عاديون شددوا على أن غزة ليست قضية سياسية فقط، بل قضية أخلاقية، في ظل مجاعة رسمية أعلنتها الأمم المتحدة وارتفاع أعداد الضحايا إلى أكثر من 62 ألف شهيد و157 ألف جريح.
موقف أيرلندا: الإبادة تهديد للديمقراطية
تزامن الحراك الأسترالي مع تصريحات لافتة تابعها مرصد بقش للرئيس الأيرلندي مايكل دي هيغينز، الذي وصف ما يجري في غزة بأنه “فترة مأساوية من تاريخ العالم” و”تهديد للديمقراطية”. في مقابلة مع الإذاعة الأيرلندية، أكد هيغينز أن إسرائيل تسعى لقطع الصلة بين الضفة الغربية وغزة، متهماً قادة في الحكومة الإسرائيلية بالتنكر العلني للقانون الدولي.
الرئيس الأيرلندي دعا إلى تفعيل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتشكيل قوة تضمن وصول المساعدات الإنسانية حتى مع استخدام الفيتو في مجلس الأمن. وأكد أن “عالم اللامساءلة” الذي يسمح باستمرار الإبادة هو أخطر تهديد للنظام الدولي.
ومن أوتاوا، جاء الموقف الكندي أكثر وضوحاً. وزير التنمية الدولية رانديب ساراي قال إن “الإجراءات العسكرية الإسرائيلية جعلت المجاعة واقعاً مدمّراً في غزة”. وأشار إلى تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي المدعوم من الأمم المتحدة، الذي أعلن رسمياً تفشي المجاعة في مدينة غزة مع احتمال امتدادها جنوباً.
الوزير الكندي حمّل إسرائيل بصفتها قوة احتلال المسؤولية القانونية عن عرقلة المساعدات وارتفاع أعداد الوفيات، مؤكداً أن الأطفال هم الأكثر تضرراً. وأوضح أن استمرار العدوان جعل الأزمة الإنسانية في غزة تتفاقم إلى مستوى كارثي.
هولندا: استقالات تهز الحكومة
في لاهاي، أدت مواقف متباينة بشأن فرض عقوبات على إسرائيل إلى استقالات متلاحقة في حكومة تصريف الأعمال. استقال وزير الخارجية كاسبار فيلدكامب أولاً احتجاجاً على رفض الحكومة اتخاذ إجراءات إضافية، ثم تبعه جميع الوزراء المنتمين لحزب “العقد الاجتماعي الجديد” وبينهم نائب رئيس الوزراء ووزراء الداخلية والتعليم والصحة بالإنابة.
هذه الاستقالات أضعفت الحكومة وأظهرت حجم الانقسام داخل الأوساط السياسية الأوروبية بشأن العدوان على غزة. مراقبون أشاروا حسب متابعات بقش إلى أن الضغوط الشعبية والاحتجاجات المتكررة في أوروبا جعلت الأحزاب تخشى خسارة قاعدتها الجماهيرية إذا تجاهلت المواقف المناهضة للحرب.
الأرقام القادمة من غزة ترسم صورة كارثية، أكثر من 62 ألف شهيد و157 ألف جريح، إضافة إلى 281 وفاة بسبب الجوع، بينهم 114 طفلاً، وفق وزارة الصحة الفلسطينية وفق قراءة بقش. إعلان المجاعة رسمياً يعكس انهيار البنية الاقتصادية والمعيشية: حصار خانق، انعدام الغذاء والدواء، توقف المستشفيات، ونزوح مئات الآلاف.
النتائج الاقتصادية الإقليمية تتوسع أيضاً، حيث تعطلت سلاسل التوريد، وارتفعت أسعار الطاقة والشحن عالمياً، بينما تواجه دول مجاورة مثل مصر خسائر مباشرة نتيجة تراجع إيرادات قناة السويس بأكثر من 50% في 2024 بسبب الاضطرابات البحرية الناجمة عن الحرب.
من الشارع إلى السياسة: تحولات جارية
هذه التطورات تكشف أن ما كان يُنظر إليه كحراك تضامني رمزي تحوّل إلى قوة ضغط حقيقية. في أستراليا، لم تعد القضية محصورة في الشارع؛ بل وصلت إلى البرلمان. في إيرلندا، أصبح الموقف الرئاسي مرجعية أخلاقية دولية. في كندا، تحوّل الملف إلى قضية سياسات تنموية وحقوقية. وفي هولندا، أسقط الانقسام الحكومة فعلياً.
الجامع بين هذه الأمثلة أن العدوان على غزة لم يعد ملفاً بعيداً جغرافياً، بل تحوّل إلى عامل داخلي يُعيد تشكيل النقاش العام والاقتصاد والسياسة في عواصم بعيدة، حتى وإن تخاذل عنه العرب وسكت عنه المسلمين كافة.
فتصاعد المظاهرات في أستراليا وأوروبا يجعل الحكومات الغربية أمام حسابات جديدة، الاستمرار في علاقات تجارية وعسكرية مع إسرائيل يعني مواجهة تكاليف سمعة متزايدة، وربما مقاطعات شعبية وصناديق استثمارية تسحب أموالها. أما الانعطاف نحو سياسات أكثر حزماً فقد يؤدي إلى توتر العلاقات مع الولايات المتحدة أو الشركات الدفاعية الكبرى.
الأرقام الضخمة في ملبورن وسيدني، والاستقالات في لاهاي، وتصريحات هيغينز وساراي، كلها إشارات إلى أن الرأي العام لم يعد متفرجاً. هذه التحركات تُجبر الأحزاب السياسية على إعادة صياغة برامجها الانتخابية بما يتماشى مع مطالب الشارع، خاصة مع اقتراب انتخابات محلية وأوروبية.
تحولت غزة إلى قضية داخلية في السياسة الغربية. أيرلندا تضع الملف ضمن “الدفاع عن الديمقراطية”، كندا تدرجه ضمن سياسات التنمية الدولية، هولندا تهتز حكومياً، وأستراليا تواجه ضغطاً متزايداً على صفقات السلاح. هذا التداخل يعكس أن مأساة غزة لم تعد ملفاً خارجياً بل باتت تمتحن شرعية الحكومات نفسها.