
منوعات | بقش
في تحول استراتيجي غير مسبوق، تتفوق الصين على الولايات المتحدة في سباق تصدير الطاقة العالمي، حسب وكالة “بلومبيرغ”، ليس عبر الوقود الأحفوري كما كان الحال لعقود، بل عبر تصدير تقنيات “الطاقة النظيفة”.
ففي الوقت الذي تراهن فيه واشنطن على مضاعفة إنتاج النفط والغاز لفرض حضورها الاقتصادي، تنجح بكين في تحقيق مكاسب نوعية -غير متوقعة- من تصدير المستقبل: السيارات الكهربائية، الألواح الشمسية، والبطاريات. وتعبّر بلومبيرغ عن ذلك بقولها: “في الوقت الحالي هناك فائز واضح هو الصين”.
حقائق التفوق الصيني
تفيد بيانات اطلع عليها مرصد “بقش” من مركز أبحاث الطاقة “إمبر”، بأن الصين صدّرت خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025 تقنيات نظيفة بقيمة 120 مليار دولار، متجاوزةً صادرات الولايات المتحدة من النفط والغاز البالغة 80 مليار دولار للفترة نفسها.
ورغم أن انخفاض أسعار التكنولوجيا الخضراء قلّص العائدات بالدولار، إلا أن الصين ضاعفت كميات التصدير، إذ بلغت الطاقة الإنتاجية للألواح الشمسية المصدرة في أغسطس وحده 46 ألف ميغاواط، وهو رقم قياسي جديد.
ولا يعكس التفوق الصيني مجرد النجاح التجاري، بل التحول في طبيعة النفوذ الاقتصادي الدولي، ففي حين تبيع أمريكا الوقود المستهلَك الذي ينتهي أثره، تصدّر الصين معدات تُنتج طاقة لعقود طويلة قادمة.
للمقارنة، يُشار إلى أن الولايات المتحدة، منذ إدارة ترامب الأولى (2017-2021)، وضعت استراتيجية تقوم على تعزيز إنتاج الوقود الأحفوري باعتباره عماد الاقتصاد الأمريكي ووسيلة ضغط جيوسياسي، واستمرت هذه السياسة في عهد بايدن رغم التوجهات البيئية المعلنة.
وفي الولاية الثانية لترامب (منذ يناير 2025)، يتم العمل على تخفيف القيود البيئية والتنظيمية لزيادة صادرات النفط والغاز، مقابل إضعاف برامج دعم التكنولوجيا النظيفة، لكن هذا التوجه رغم عوائده المالية الآنية، يُبقي واشنطن رهينة موارد ناضبة، ويحد من فرصها في قيادة التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة.
بينما الصين في المقابل بَنَت نفوذها العالمي عبر تصدير الطاقة النظيفة إلى الأسواق الناشئة تحديداً، وأكثر من نصف صادراتها من السيارات الكهربائية تتجه إلى دول من خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أي إلى الاقتصادات النامية التي تسعى إلى تقنيات منخفضة الكلفة ومستدامة.
ذلك يعني أن بكين لا تصدر منتجات فحسب، بل تصنع تبعية تقنية طويلة الأمد، لأن هذه الدول ستعتمد على قطع الغيار والبطاريات والخبرة الصينية لسنوات قادمة، كما أن تراجع أسعار التقنيات، الذي قد يُعتبر تحدياً اقتصادياً حسب قراءة بقش، مَنَح الصين ميزة تنافسية مضاعفة، إذ جعل تقنياتها أكثر جذباً للأسواق الناشئة الباحثة عن حلول طاقة رخيصة ونظيفة.
ويقول غريغ جاكسون، رئيس شركة “أوكتوبوس إنرجي” البريطانية، إن الفرق الجوهري بين الصادرات الصينية والأمريكية هو في طبيعة الزمن الذي تعيشه الطاقة، حيث إن “صادرات الطاقة النظيفة هي أجهزة ومعدات، وبمجرد أن تشتريها دولة ما، فإنها ستولد الكهرباء لعقد أو عقدين قادمين، أما الغاز، فبمجرد شرائه واستخدامه، فإنه يختفي إلى الأبد”، وفقاً لوكالة بلومبيرغ.
ويعكس هذا التوصيف الطابع البنيوي للاختلاف بين القوتين الاقتصاديتين العُظميين في العالم، فالصين تبيع حلولاً مستدامة تُبقيها في قلب منظومة الطاقة العالمية، بينما تبيع أمريكا موارد تُستهلك وتنتهي، وتحتاج الدول بعدها إلى شراء المزيد.
قيادة الاقتصاد الطاقي العالمي
تفوق الصين في صادرات الطاقة النظيفة يحوّل مفهوم الهيمنة ذاته، فبعد أن كانت السيطرة في القرن العشرين تُقاس بمن يملك النفط والغاز، أصبحت اليوم تُقاس بمن يملك التقنية والمعرفة والإنتاج المتجدد.
وتستثمر الصين في ما يمكن تسميته “دبلوماسية الكربون المنخفض”، حيث تستخدم صادراتها من السيارات الكهربائية والألواح الشمسية كأدوات نفوذ ناعم ومستدام، مقابل النفوذ “الصلب” الذي تمارسه أمريكا عبر النفط والغاز.
ومن منظور استراتيجي، يخلق توسع الصين في الأسواق النامية شبكةَ اعتماد عالمي على التكنولوجيا الصينية، تماماً كما خلقت شركات النفط الأمريكية اعتماداً عالمياً على الدولار في سوق الطاقة خلال القرن الماضي، وهو ما يكشف اتجاهاً صينياً بخطى ثابتة لقيادة الاقتصاد الطاقي العالمي القادم.