تقارير
أخر الأخبار

من برلين إلى جاكرتا: الغضب الشعبي يعصف بالشركات الأمريكية وسط تداعيات اقتصادية عالمية

مقالات | بقش
أحمد الحمادي

لم يعد المستهلك مجرد رقم في معادلات السوق، بل فاعلاً مؤثراً يرسم بقراراته الشرائية ملامح اقتصادات ويُعبر عن مواقف سياسية واضحة. وفي أحدث تجليات هذا الدور المتنامي، كشفت دراسة استقصائية حديثة في ألمانيا أن واحداً من كل ثلاثة مستهلكين ألمان بات يتجنب المنتجات والخدمات الأمريكية، وذلك على خلفية السياسات التي انتهجتها الإدارة الأمريكية بقيادة “دونالد ترامب”.

هذا التوجه، وإن كان له مسبباته الخاصة في السياق الألماني، إلا أنه يعكس موجة أوسع من التحفظ الشعبي تجاه العلامات التجارية الأمريكية في أنحاء مختلفة من العالم، تختلف دوافعها ولكن تتشابه في تأثيرها الاقتصادي المحتمل.

فقد أظهر الاستطلاع، الذي أجراه معهد “إنوفاكت” المرموق بتكليف من بوابة “فيريفوكس” للمقارنات، أن 34.3% من الألمان المشاركين قلصوا بالفعل إقبالهم على السلع والخدمات القادمة من الولايات المتحدة، فيما عبر 17% آخرون عن عزمهم تبني هذا النهج في المستقبل القريب.

المسح، الذي تم عبر الإنترنت بين 30 أبريل وأوائل مايو 2025، شمل عينة من 1015 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 18 و79 عاماً، كاشفاً عن قلق خاص يحيط بالهواتف الذكية الأمريكية، حيث أقر ثلث المستطلعة آراؤهم بمراجعة سلوكهم الشرائي تجاهها.

كما امتد هذا التحفظ ليشمل أجهزة الكمبيوتر ومنصات التواصل الاجتماعي الشهيرة مثل “إنستغرام” و”إكس”، التي أبدى نحو 30% عدم رغبة في استخدام منتجاتها، وإن كان التخلي عن تطبيق “واتساب” لا يزال خياراً صعباً، إذ لم يبد سوى 17% استعدادهم لذلك.

وتتجاوز هذه المشاعر حدود ألمانيا لتجد صداها في حملات مقاطعة واسعة النطاق تستهدف البضائع الأمريكية في العديد من الدول العربية والإسلامية ومناطق أخرى حول العالم.

هذه الحملات، التي اكتسبت زخماً كبيراً منذ أواخر عام 2023 واستمرت بقوة خلال عامي 2024 و2025، تأتي كرد فعل مباشر على الدعم الأمريكي المطلق والمستمر لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة. وتشير متابعات “المرصد الاقتصادي بقش” إلى أن شركات أمريكية كبرى باتت تشعر بوطأة هذه المقاطعة.

تأثير المقاطعة العالمية وتحديات الاقتصاد الألماني

تُعد شركات مثل “ستاربكس”، و”ماكدونالدز”، و”كوكاكولا”، و”بيبسي كو”، و”بابا جونز”، بالإضافة إلى علامات تجارية في قطاع الملابس والتكنولوجيا، من أبرز الأمثلة على الشركات التي واجهت دعوات مقاطعة منظمة وشعبية واسعة.

وقد أظهرت أحدث البيانات والإحصائيات المتاحة حتى الربع الأول من عام 2025، وفقاً لتقارير أرباح الشركات وتحليلات السوق، تراجعاً ملحوظاً في مبيعات وأرباح فروع هذه الشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبعض الدول الآسيوية والأوروبية.

فعلى سبيل المثال، اعترفت إدارة “ستاربكس” بتأثر أعمالها في المنطقة، فيما أشارت تقارير غير رسمية إلى أن “ماكدونالدز” شهدت انخفاضاً في الإقبال في عدة أسواق رئيسية نتيجة الحملات. ورغم صعوبة تحديد حجم الخسائر بدقة وعزوها كلياً للمقاطعة، إلا أن المؤشرات تجمع على أن التأثير السلبي بات ملموساً وضاغطاً على هذه العلامات التجارية العملاقة.

وفي سياق متصل، تأتي هذه التحركات الشعبية في وقت يواجه فيه الاقتصاد الألماني، كأحد أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، ضغوطاً متزايدة جراء النزاع الجمركي المتصاعد.

فقد رسم معهد “آي دبليو” الألماني المرموق للبحوث الاقتصادية صورة قاتمة، متوقعاً انكماش الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بنسبة 0.2% خلال العام الجاري 2025.

وعزا المعهد هذا التراجع المتوقع إلى مزيج من العوامل، أبرزها حالة عدم اليقين التي تخيم على الاقتصاد العالمي، وتراجع وتيرة الاستثمارات، والارتفاع الملحوظ في تكاليف الإنتاج، فضلاً عن تردد المستهلكين الألمان أنفسهم في الإقدام على عمليات شراء كبيرة في ظل هذه الأجواء.

“ألمانيا ستبقى في حالة ركود”، هكذا لخص المعهد توقعاته، مشدداً على أن السياسة التجارية الأمريكية وما تفرضه من رسوم جمركية تمثل حالياً الخطر الأكبر على الاقتصاد العالمي.

ومن المقدر أن تؤدي هذه السياسات الحمائية إلى كبح النمو العالمي بنسبة تصل إلى 1%، وهو نمو كان يمكن تحقيقه لولا هذه الإجراءات. هذا الوضع المتأزم يدفع الشركات الألمانية إلى تجميد خططها الاستثمارية، خاصة فيما يتعلق بالمعدات الثقيلة والآلات والمركبات الجديدة، مما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي.

امتداد الأزمة للقطاعات الحيوية ومؤشرات التضخم

لم تسلم القطاعات الحيوية في ألمانيا من تداعيات هذه الأزمة المركبة، فقطاع الصناعة، الذي يُعتبر عصب الاقتصاد الألماني، من المتوقع أن يواصل تسجيل الخسائر بعد انخفاض بنسبة 3% في عام 2024، وذلك بفعل الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة، وزيادة الأجور، وكثرة اللوائح التنظيمية التي تثقل كاهل الشركات.

أما قطاع البناء، الذي يُعد مؤشراً هاماً على صحة الاقتصاد، فقد سجل هو الآخر خسائر بنسبة 3.7% العام الماضي، ويبدو أنه يتجه نحو مزيد من الانكماش خلال عام 2025، بسبب ارتفاع التكاليف وقواعد التخطيط المعقدة التي تعيق نموه.

وعلى صعيد مؤشرات التضخم، أظهرت بيانات حديثة صادرة عن مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني (ديستاتيس) أن مؤشر أسعار المستهلكين قد ارتفع بنسبة 2.1% على أساس سنوي في شهر أبريل الماضي، مقارنة بـ2.2% في مارس، مسجلاً بذلك أدنى مستوى له خلال ستة أشهر.

ويعود هذا الانخفاض الطفيف بشكل رئيسي إلى تراجع أسعار الطاقة بنسبة ملحوظة بلغت 5.4% مقارنة بشهر أبريل من العام الماضي. ومع ذلك، استمرت أسعار المواد الغذائية في مسارها التصاعدي، حيث سجلت ارتفاعاً بنسبة 2.8%، مما يضيف عبئاً إضافياً على كاهل الأسر الألمانية.

مستقبل غامض وتحديات متعددة

تُظهر هذه المعطيات المتشابكة أن الاقتصاد الألماني، ومعه الاقتصادات العالمية، يقف على مفترق طرق محفوف بالتحديات. فمن جهة، تفرض السياسات الحمائية الأمريكية ضغوطاً على الصادرات وتثير ردود فعل استهلاكية وشعبية غاضبة، كما يتضح من حملات المقاطعة المتزايدة. ومن جهة أخرى، يعاني الاقتصاد الألماني من ركود داخلي يمتد تأثيره من قطاع الصناعة إلى سوق العمل، ويُغذيه تضخم متفاوت في مكوناته وتكاليف إنتاج آخذة في الارتفاع.

ويبقى مستقبل الاقتصاد العالمي، والاقتصاد الألماني كنموذج، مرهوناً بالقدرة على إيجاد استجابات سياسية واقتصادية عاجلة وفعالة لهذه التحديات.

وفي الوقت نفسه، تزداد القناعة لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي بأن التبعية الاقتصادية لمنتجات وخدمات دول معينة، خاصة تلك التي تنتهج سياسات يُنظر إليها على أنها مثيرة للجدل أو داعمة لممارسات غير عادلة، قد تكون لها تكلفتها الباهظة ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل أيضاً على صعيد القيم والمبادئ.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش