مواجهة غير مسبوقة بين البيت الأبيض والاحتياطي الفيدرالي.. المخاطر تمتد من أمريكا إلى النظام المالي العالمي

تقارير | بقش
دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مواجهة مباشرة مع مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بعد أن صعّد ضغوطه من أجل خفض أسعار الفائدة بشكل عاجل. ترامب لم يكتفِ بالمطالبة بتغيير السياسة النقدية، بل لوّح بإعادة صياغة العلاقة التاريخية بين الفيدرالي ووزارة الخزانة، في خطوة وصفتها تقارير دولية بأنها الأخطر على استقلالية السياسة النقدية منذ سبعة عقود.
ووفق ما أوردته وكالة بلومبيرغ، فإن البيت الأبيض يدفع باتجاه “اتفاق جديد” يحل محل اتفاق عام 1951، الذي أسس لاستقلال الفيدرالي عن الحكومة التنفيذية ومنحه سلطة تحديد أسعار الفائدة بعيداً عن اعتبارات تمويل العجز وفق اطلاع بقش. وذهب وزير الخزانة “سكوت بيسنت” إلى أبعد من ذلك حين دعا صراحة إلى “إعادة هيكلة الفيدرالي”، في لهجة لم يُسمع مثلها من قبل على لسان مسؤول رفيع.
بالنسبة لترامب، فإن الصراع مع الفيدرالي ليس تفصيلاً تقنياً بل جزء من مشروعه الاقتصادي الأشمل، الذي يصفه أنصاره بـ”ماغانوميكس”، نسبة إلى شعار حملته “لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً”. هذا التوجّه يركز على تحفيز النمو بأي وسيلة ممكنة، وفي المقدمة خفض كلفة الاقتراض، حتى وإن كان ذلك على حساب الاستقلال المؤسسي للفدرالي.
ترامب يراهن على أن نجاحه في فرض رؤيته سيجعله أول رئيس يتمكن من “إخضاع الفيدرالي”، على عكس أسلافه الذين خسروا جولات مماثلة. نفوذه السياسي يمنحه أوراق ضغط إضافية، إذ يقترب من تأمين أغلبية داخل مجلس المحافظين المكوّن من سبعة أعضاء، مع قدرته على تسمية رئيس جديد للبنك المركزي خلال ولايته الحالية.
بلومبيرغ ترى أن ما يحدث هو “أوثق ارتباط بين البيت الأبيض والفيدرالي منذ تسعين عاماً”، في ظل وجود شخصيات مقربة من ترامب تستعد لشغل مقاعد مؤثرة داخل المجلس، ما قد يعزز محاولاته لتغيير قواعد اللعبة.
خلفية تاريخية لصراعات الرؤساء مع أكبر بنك في العالم
ليست هذه المرة الأولى التي تهتز فيها العلاقة بين الخزانة والفيدرالي. ففي أربعينيات القرن الماضي، وأثناء الحرب العالمية الثانية، التزم البنك المركزي بقيادة مارينر إيكلز بربط أسعار الفائدة لدعم تمويل المجهود العسكري. لكن مع بداية الخمسينيات، وارتفاع التضخم، نشب خلاف حاد مع إدارة الرئيس هاري ترومان، وصل إلى حد اتهام البيت الأبيض للفدرالي بالتقصير في “واجباته الوطنية”.
الأزمة انتهت بما عُرف لاحقاً بـ”اتفاق 1951″، الذي اعتُبر بمثابة إعلان استقلال الفيدرالي عن وزارة الخزانة. ذلك الاتفاق منح البنك حرية تحديد أسعار الفائدة دون تدخل مباشر من السلطة التنفيذية، وأصبح منذ ذلك الحين أحد أعمدة الثقة بالاقتصاد الأمريكي والعالمي على السواء.
اليوم، يرى ترامب وفريقه أن الفيدرالي فشل في أزمات عدة: من تباطؤ الاستجابة لانهيار المصارف عام 2023، إلى عجزه عن كبح موجة التضخم الأخيرة. وزير الخزانة بيسنت كتب مؤخراً أن “الفيدرالي أسير ماضيه وغروره”، مطالباً بمراجعة شاملة لبنيته وآليات عمله.
لكن معظم الخبراء يحذرون من أن السماح للبيت الأبيض بالتدخل المباشر في تحديد الفائدة سيقوض مصداقية السياسة النقدية، ويهز ثقة المستثمرين العالميين في الاقتصاد الأمريكي. ريتشارد كلاريدا، المحافظ السابق في الفيدرالي، اعتبر أن “من النادر أن تجد بنكاً مركزياً يستهدف التضخم بشكل موثوق إذا كان وزير المالية شريكاً رسمياً في صنع القرار النقدي”.
الكونغرس بين الدعم والتحفظ
يبقى الكونغرس السد الأخير أمام طموحات ترامب. فرغم أن بعض الجمهوريين يرون أن العلاقة بين الفيدرالي والحكومة التنفيذية يجب أن تكون “أكثر تفاعلية”، إلا أن الأغلبية لا تزال متمسكة بمبدأ استقلالية البنك المركزي حسب متابعة بقش لهذا الملف.
رئيس لجنة السياسة النقدية في مجلس النواب فرانك لوكاس أكد أن “دور الفيدرالي يجب أن يظل منصباً على استقرار الأسعار والتوظيف”، محذراً من مغبة تسييس قرارات الفائدة.
وتكمن المعضلة في أن ترامب يصر علناً على ضرورة خفض الفائدة إلى 1% فقط، مدعياً أنه “يعرف أسعار الفائدة أفضل بكثير” من قادة الفيدرالي أنفسهم. مثل هذا الطرح يضع المؤسسة النقدية الأهم في العالم في مواجهة مباشرة مع السلطة التنفيذية، بما يحمله من مخاطر على الاقتصاد الأمريكي والعالمي.
محاولة إعادة تشكيل العلاقة بين البيت الأبيض والفيدرالي ليست مجرد شأن داخلي أمريكي. استقلالية الفيدرالي تعد ركيزة للنظام المالي الدولي، وأي مساس بها قد يضعف الثقة بالدولار، العملة التي تمثل العمود الفقري للتجارة العالمية واحتياطيات البنوك المركزية.
وبحسب بلومبيرغ، فإن فشل هذه المواجهة قد يعني “ارتفاع الأسعار وفقدان مصداقية الفيدرالي لسنوات طويلة”، وهو ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار النقدي ليس فقط في الولايات المتحدة، بل عبر النظام المالي العالمي برمته.
وتتابع أسواق المال العالمية التطورات بين البيت الأبيض والفيدرالي بقلق بالغ. فالمستثمرون يعتبرون استقلالية البنك المركزي الأمريكي صمام أمان يضمن استقرار الدولار، وأي إشارة إلى تدخل سياسي مباشر في تحديد أسعار الفائدة تُقرأ على أنها تهديد طويل الأمد لمكانة العملة الأمريكية كملاذ آمن. وبالفعل، أظهرت عقود المشتقات المرتبطة بسعر الفائدة تقلبات حادة في الأسابيع الأخيرة وفق متابعات بقش، مع تزايد الرهانات على خفض أسرع للفائدة في حال نجح ترامب بفرض رؤيته.
الدولار تحت المجهر والذهب كملاذ بديل
المصارف الاستثمارية الكبرى مثل “جيه بي مورغان” و”غولدمان ساكس” حذّرت عملاءها من أن أي تراجع في استقلالية الفيدرالي سيضغط على الدولار في المدى المتوسط. فإذا فقد البنك مصداقيته في مكافحة التضخم، فقد تنخفض جاذبية الدولار كعملة احتياط، مما قد يدفع بعض البنوك المركزية في آسيا وأمريكا اللاتينية إلى تنويع احتياطاتها نحو اليورو أو الذهب. ويشير محللون إلى أن مجرد الحديث عن “إعادة هيكلة الفيدرالي” كان كافياً لرفع تكاليف التحوط على العملة الأمريكية في الأسواق الموازية.
الذهب بدوره استفاد من حالة القلق، إذ صعدت أسعار المعدن النفيس خلال الأسابيع الأخيرة مع تزايد الحديث عن صدام بين ترامب والفيدرالي، إذ ينظر المستثمرون إلى الذهب باعتباره مخزناً للقيمة في حال اهتزت الثقة بالدولار أو ارتفعت معدلات التضخم بشكل غير متوقع. بعض البنوك الاستثمارية رأت أن السيناريو الأسوأ، حيث يتراجع الفيدرالي عن دوره التقليدي في السيطرة على الأسعار، قد يدفع الذهب إلى مستويات قياسية جديدة تفوق الأرقام المسجلة في ذروة أزمة الجائحة.
ولا يقتصر الأثر على الولايات المتحدة، فأسعار الفائدة الأمريكية تمثل مرجعاً للأسواق العالمية، وأي خفض سياسي موجه للفائدة سيؤثر على تكاليف الاقتراض في معظم الاقتصادات الناشئة والمتقدمة.
بنوك أوروبا وآسيا تدرك أن أي تراجع في عوائد السندات الأمريكية سيدفع تدفقات رؤوس الأموال بعيداً عن الدولار نحو أسواق بديلة، ما يعني مزيداً من التقلبات. كما أن البنوك المركزية الأخرى قد تجد نفسها مضطرة للتكيف مع هذه التحولات، إما عبر رفع الفوائد لحماية عملاتها أو عبر إعادة صياغة سياساتها النقدية بما يتماشى مع المرحلة الجديدة.