الاقتصاد اليمني
أخر الأخبار

نصف اليمن جائع: تقرير دولي يحذر من أسوأ مستويات الجوع منذ بدء الحرب

الاقتصاد اليمني | بقش

تشهد اليمن موجة متصاعدة من انعدام الأمن الغذائي، مع استمرار التدهور الاقتصادي وتقلص المساعدات الإنسانية وارتفاع معدلات النزاع والكوارث الطبيعية. وتؤكد البيانات الواردة في التحديث الحادي عشر لتقرير المراقبة المشتركة للأمن الغذائي والتغذية الصادر في نوفمبر 2025 أن البلاد تدخل مرحلة تتسع فيها رقعة الجوع بوتيرة تنذر بانهيار إنساني واسع النطاق خلال الأشهر المقبلة.

ويشير التقرير الذي اطلع عليه بقش إلى أن أكثر من نصف السكان يتجهون نحو مستويات من الجوع الحاد، في وقت تتزايد فيه القيود على العمل الإنساني وتتراجع فيه قدرة الأسر على التأقلم مع الارتفاع المتواصل في الأسعار وانخفاض الموارد.

ويورد التقرير الصادر عن فريق مشترك يضم البنك الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة واليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية أن اليمن بات ثالث أكثر دولة انعداماً للأمن الغذائي في العالم، مع تحذيرات قوية من احتمال انتقاله إلى فئة “الخطر الشديد للغاية” ضمن المؤشر العالمي للجوع.

ويعكس ذلك عمق الأزمة وتداخل أسبابها، من الصراع وتراجع الواردات، إلى الانهيار الاقتصادي وارتفاع أسعار الوقود والغذاء، وتوسع الأمراض وسوء التغذية، وصولاً إلى انخفاض مستويات الأمطار واشتداد موجات الجفاف.

وتوضح البيانات أن العوامل المتشابكة التي تقود الأزمة لا تزال تتفاقم من دون أي مؤشرات على انفراج قريب. ويتزامن ذلك مع محدودية شديدة في قدرة اليمنيين على تحمل الصدمات الجديدة، ما يمهّد لمرحلة قد تشهد توسعاً في جيوب المجاعة ما لم يحدث تدخل سريع وفاعل يعيد التوازن إلى منظومة الأمن الغذائي في البلاد.

خريطة الجوع في اليمن واتساع رقعة المحتاجين

يُتوقّع أن يواجه 18.1 مليون شخص، أي ما يعادل 52% من سكان البلاد، مستويات الأزمة أو أسوأ (IPC3+) خلال الفترة من سبتمبر 2025 إلى فبراير 2026، بينهم 5.5 مليون شخص يقعون في مرحلة الطوارئ (IPC4) حسب قراءة بقش، إضافة إلى 41 ألف شخص في المرحلة الكارثية (IPC5) وهي المستوى الأخطر ضمن تصنيف انعدام الأمن الغذائي. وتعكس هذه الأرقام هشاشة بنيوية عميقة، وتؤكد أن الأزمة لم تعد محصورة في مناطق معينة بل باتت تشمل معظم محافظات البلاد بدرجات متفاوتة.

ويبلغ عدد الأشخاص المتأثرين في مناطق حكومة صنعاء نحو 12.8 مليون شخص، بينما يسجّل نحو 5.38 مليون شخص في مناطق حكومة عدن مستويات مماثلة من الجوع الحاد. وتصل نسبة السكان الذين يقعون في مستويات الأزمة وما فوق إلى 52% في مناطق صنعاء و53% في مناطق عدن، ما يشير إلى أن تبعات الأزمة الغذائية تتجاوز خطوط السيطرة وتترك آثاراً واسعة على مستوى البلاد ككل.

وتبرز محافظات مثل مأرب (61%)، الجوف وحجة (59%)، وعمران (58%) بين أكثر المناطق تضرراً. أما من حيث العدد، فتسجل الحديدة وتعز وصنعاء المدينة وإب وحجة أعلى مجموعات من السكان المتأثرين، حيث يتراوح العدد في كل منها بين 1.5 إلى 2 مليون شخص.

وتشير البيانات إلى 12 مديرية تُعد الأكثر خطورة، إذ تتجاوز فيها مستويات الأزمة حاجز 65%، وتوجد فيها جيوب من المرحلة الخامسة، خصوصاً في مناطق خاضعة لحكومة صنعاء مثل عبس وكشر والأشاح والزهرة، إضافة إلى مديريات في محافظات أخرى متأثرة بالنزاع والفيضانات.

تدهور الاستهلاك الغذائي واستنزاف قدرة الأسر على الصمود

يُظهر التقرير أن 61% من الأسر اليمنية لم تتمكن في سبتمبر 2025 من تلبية الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية، مع تسجيل نسبٍ مرتفعة للغاية في محافظات الضالع ولحج وريمة والبيضاء التي بلغت مستويات بين 73% و75%. وتأتي هذه الأرقام رغم التحسن الموسمي المؤقت بعد موسم الحصاد، لكنها تظل تشير إلى أزمة ممتدة لا تتأثر بهذه التحولات قصيرة الأجل.

وتلجأ الأسر إلى مستويات غير مسبوقة من استراتيجيات التأقلم السلبية، إذ أفاد 42% منها بالاعتماد على إجراءات قاسية كتقليل حجم الحصص الغذائية وتقليل عدد الوجبات وفق تتبُّع بقش، بينما تضطر الأسر في كثير من الحالات لتفضيل الأطفال على حساب البالغين بسبب محدودية الغذاء.

وتعد هذه المؤشرات انعكاساً مباشراً لفقدان القدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية، وتكشف عن أن ملايين اليمنيين باتوا على حافة فقدان الحد الأدنى من القدرة على الاستمرار.

وتتفاقم حدة الأزمة بين النازحين، حيث يعاني 63% منهم من عدم كفاية الغذاء، بينما تصل نسبة المستهلكين لسلة غذائية ضعيفة جداً إلى 39% بين النازحين في المخيمات، خصوصاً في المناطق الواقعة ضمن نفوذ حكومة صنعاء.

وتُظهر البيانات أيضاً أن سوء التغذية بين الأطفال يرتفع في تلك المخيمات، وأن مستويات التنوع الغذائي لدى الأطفال في عمر 6–23 شهراً منخفضة للغاية، حيث تكتفي معظم الأسر بتقديم غذاء ينتمي إلى مجموعة أو مجموعتين فقط من أصل ثماني مجموعات ضرورية للنمو السليم.

الضغوط الاقتصادية واتساع فجوات الأسعار

يسجل التقرير فجوة كبيرة بين الأسعار المحلية والعالمية للسلع الأساسية، وهي من أكبر الفجوات المسجلة في المنطقة. ففي مناطق حكومة صنعاء، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو 138% فوق السعر العالمي، فيما بلغت الفجوة في مناطق حكومة عدن 115%، وهي ثاني أعلى مستوياتها منذ يناير 2024. ويعود ذلك إلى ضعف تمرير أثر التغيرات العالمية على السوق المحلي، إضافة إلى اضطراب سلاسل التوريد وتراجع الواردات وارتفاع تكاليف النقل.

ويُظهر مؤشر واردات الوقود 214 إنذاراً في مناطق حكومة صنعاء، مع بلوغ الكلفة المحلية للغاز والبترول نحو 1.58 دولار مقارنة بـ0.83 دولار عالمياً. ويشير التقرير وفق اطلاع بقش إلى أن سقطرى تشهد أعلى ارتفاع في أسعار الوقود منذ عام 2022 بسبب احتكار الشركات المستوردة، وهو ما أدى إلى اضطرابات واحتجاجات شعبية. أما في مناطق حكومة عدن، فقد أدى تحسن سعر الصرف مؤقتاً إلى انخفاض أسعار الوقود، لكنه تحسن هش قد لا يستمر في ظل عدم وجود إصلاحات اقتصادية أوسع.

وتراجعت واردات الغذاء عبر موانئ البحر الأحمر بنسبة 44% مقارنة بالعام الماضي، وهي موانئ خاضعة لحكومة صنعاء. في المقابل، شهدت الموانئ الجنوبية الخاضعة لحكومة عدن ارتفاعاً في الواردات بنسبة 121%، ما يعكس تفاوتاً حاداً في القدرة على استيراد السلع بين مناطق السيطرة. أما واردات الوقود فقد وصلت إلى أدنى مستوى منذ عام على الأقل في الجبهتين، وهو ما يشكل ضغطاً إضافياً على أسعار النقل والإنتاج، ويمتد أثره المباشر إلى أسعار الغذاء.

الصراع والنزوح وانتشار الأمراض

شهدت محافظات عدة موجات جديدة من النزوح، بلغ عدد الأسر النازحة خلالها 272 أسرة في سبتمبر وحده، نتيجة الفيضانات والصراع والأوضاع الاقتصادية المتدهورة. وتمثل الفيضانات 40% من حالات النزوح، بينما يشكل الصراع المباشر 31% والمصاعب الاقتصادية 27%، ما يعكس تعدد العوامل التي تدفع الأسر إلى ترك أماكنها وتفاقم الضغوط على مناطق الاستقبال.

وسجلت صنعاء مستويات مرتفعة من التحذيرات المرتبطة بالصراع في سبتمبر، بعد ضربات عسكرية مكثفة استهدفت مواقع إعلامية ومنشآت حيوية، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. وتسببت هذه التطورات في زيادة مؤشرات الخطر في العاصمة، خصوصاً مع تضرر منشآت خدمية حيوية في المدينة.

وتتزامن هذه الأحداث مع ارتفاع معدلات الأمراض وسوء التغذية، حيث رصد التقرير زيادة بنسبة 65% في حالات الإسهالات المائية الحادة في محافظتي الحديدة وحجة. كما تُظهر البيانات أن سوء التغذية يتركز بشكل أكبر في المديريات الساحلية، وأن الأطفال دون الخامسة يتأثرون بشدة بسبب ضعف المناعة الناتج عن سوء التغذية وتراجع خدمات المياه والصرف الصحي.

تعكس البيانات الواردة في التقرير أن اليمن يقف أمام أزمة غذاء ممتدة تتجاوز كونها نتيجة لتقلبات موسمية أو ظروف طارئة. وتكشف الأرقام أن قدرة السكان على التكيف وصلت إلى مستويات بالغة الضعف، وأن أي صدمات إضافية—اقتصادية أو أمنية أو طبيعية—قد تدفع مناطق جديدة نحو المرحلة الخامسة (IPC5)، خصوصاً في المحافظات التي تعاني من تراجع الواردات، وتدهور الخدمات، وارتفاع معدلات الفقر.

وتشير قراءة بقش إلى أن التداخل بين تراجع واردات الغذاء والوقود، واتساع فجوة الأسعار، وانتشار الأمراض، يؤدي إلى تكوين دائرة مغلقة من التدهور يصعب كسرها دون تدخل إنساني واقتصادي واسع النطاق. كما أن البيئة الإنسانية المعقدة في مناطق حكومة صنعاء، حيث تم تسجيل احتجاز موظفين أمميين وتقليص مساحة العمل الإنساني، تزيد من صعوبة وصول المساعدات في المناطق الأكثر تضرراً.

يتطلب الوضع اليمني خطة إنقاذ شاملة تبدأ بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية واستعادة القدرة التشغيلية للمنظمات الدولية، وتقديم دعم مباشر لواردات الغذاء والوقود لتقليص فجوة الأسعار. كما يجب تعزيز برامج التغذية والصحة العامة لمعالجة سوء التغذية والأمراض المرتبطة بالمياه، مع الاستثمار في البنية الزراعية والمائية للتخفيف من أثر الجفاف.

وفي الوقت نفسه، تبرز أهمية دعم برامج سبل العيش للفئات الأكثر هشاشة لتقليل اعتمادها الكامل على المساعدات، بما يسمح بكسر دائرة الاعتماد والانتقال نحو مستويات أكثر استدامة من الأمن الغذائي.

زر الذهاب إلى الأعلى