
تقارير | بقش
في خطوة اعتُبرت الأبرز على الساحة الأوروبية، أعلن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز عن حزمة قيود ضد إسرائيل شملت وقف تصدير الأسلحة إليها، وحظر رسو السفن التي تحمل وقوداً للقوات الإسرائيلية في الموانئ الإسبانية، وحمل القرار دلالات سياسية عميقة، إذ يعكس تصاعد الضغط الشعبي في إسبانيا الذي يطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل، وربطه مباشرة بالمجازر الجارية في غزة.
صحيفة هآرتس الإسرائيلية لفتت إلى أن إسبانيا ليست مورداً أساسياً للسلاح، لكن موقعها الجغرافي يجعلها لاعباً لا غنى عنه، فهي تتحكم عملياً بمدخل البحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق. هذا الموقع يمنح مدريد أوراق ضغط على شركات الشحن الإسرائيلية، مثل شركة “زيم”، التي تعتمد بشكل متكرر على موانئ برشلونة وفالنسيا كمحطات رئيسية. أي تضييق على هذه الموانئ يضاعف تكلفة النقل ويؤخر وصول البضائع.
حتى الآن، ترى بعض الدوائر الإسرائيلية أن التأثير محدود، إذ يمكن للسفن التي تنقل أسلحة أو معدات عسكرية أن تستخدم موانئ بديلة وفق قراءة بقش، غير أن القلق يكمن في إمكانية توسيع الحظر ليشمل بضائع مدنية أو تجارية، أو أن تتخذ نقابات الموانئ الأوروبية مواقف مشابهة، كما حدث سابقاً في بلجيكا واليونان وفرنسا عندما رفضت تفريغ شحنات مرتبطة بإسرائيل.
الأمر لم يعد محصوراً في الجانب الرسمي، بل إن الحركات العمالية والشعبية الأوروبية باتت تملك تأثيراً مضاعفاً، فهي قادرة على تعطيل حركة الشحن حتى دون قرارات حكومية، مما يجعل خطوط الإمداد الإسرائيلية عرضة للتقلبات السياسية والاجتماعية في أكثر من بلد.
البحر الأحمر.. المعركة الحاسمة
لكن التحدي الأكبر لإسرائيل لا يأتي من المتوسط فقط، بل من الجنوب. فمنذ عامين، أعلنت حكومة صنعاء إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى موانئها. هذه الخطوة أدت عملياً إلى شل ميناء إيلات على البحر الأحمر، وحرمت إسرائيل من منفذ استراتيجي كان يربطها مباشرة بالأسواق الآسيوية والإفريقية.
الحصار البحري الذي تفرضه صنعاء لم يكن رمزياً، فقد ترافق مع تهديد مباشر للسفن التجارية وشركات الملاحة، مما دفع كثيراً من خطوط الشحن الدولية إلى تجنب أي مسار يمكن أن يربطها بإسرائيل. وبذلك، تحوّل البحر الأحمر إلى جبهة اقتصادية وعسكرية متداخلة، حيث أصبح المرور عبره محفوفاً بالمخاطر بالنسبة للشحنات الإسرائيلية.
بهذا، تجد إسرائيل نفسها محاصرة بين قيود المتوسط وحصار البحر الأحمر. فبينما يشدد الأوروبيون الخناق عبر قرارات رسمية ومواقف نقابية، تعمل صنعاء على قطع شريانها الجنوبي بشكل كامل. النتيجة هي تراجع هامش المناورة أمام إسرائيل التي اعتادت لعقود على حرية الملاحة بوصفها مسلّمة لا تُمس.
الآن، ومع سقوط ميناء إيلات من المعادلة، وتنامي القيود الأوروبية، تتقلص خيارات إسرائيل البحرية إلى حد غير مسبوق. وهذا يطرح سؤالاً وجودياً على دوائرها الاقتصادية: كيف يمكن استمرار تدفق التجارة في ظل انسداد المنافذ البحرية الأساسية؟
الجسر البري: البديل المثير للجدل
في مواجهة هذا الحصار البحري المزدوج، لجأت إسرائيل إلى الجسر البري الإقليمي الذي يبدأ من الإمارات، ويمر عبر السعودية، ثم الأردن وصولاً إلى الأراضي المحتلة. هذا الطريق يتيح نقل البضائع براً في قوافل شاحنات ضخمة، متجاوزاً العقبات البحرية التي فُرضت عليها.
وجود هذا الجسر البرّي ليس مجرد ترتيبات لوجستية، بل هو قرار سياسي بامتياز. فهو يمثل، بحسب مراقبين، تواطؤاً عربياً مع إسرائيل، وفق اطلاع بقش، إذ يوفر لها شريان حياة استراتيجياً يخفف من آثار الحصار البحري. في الوقت الذي يُمنع فيه مرور السفن في باب المندب أو يتم تعطيلها في المتوسط، تجد البضائع طريقها عبر البر بدعم صامت من عواصم عربية.
هذا الجسر سمح للإسرائيليين بتخفيف جزء من الضغط، خصوصاً فيما يتعلق بالبضائع القادمة من شرق آسيا والتي يمكن تفريغها في موانئ خليجية، ثم شحنها براً إلى الداخل الإسرائيلي. النتيجة أن اقتصاد الاحتلال لم يختنق بشكل كامل رغم تشديد الحصار البحري، بل وجد متنفساً عبر هذا المسار البري.
لكن في المقابل، هذا المسار يطرح مخاطر سياسية وأمنية على الدول المشاركة فيه. فالشارع العربي ينظر إليه باعتباره تفريطاً في ورقة ضغط كبرى كان يمكن استخدامها لدعم غزة وفرض عزلة خانقة على الاحتلال. كما أن استمرار هذه الترتيبات قد يعرّض الدول الممرّة لموجة غضب شعبي داخلي يصعب التحكم بها إذا اتسع نطاق المواجهة.
بالنسبة لإسرائيل، فإن استمرار عمل هذا الجسر البري يعني أن حصارها لم يكتمل بعد. لكنها تدرك في الوقت ذاته أن هذا المسار هشّ ومعرّض لأي تغييرات سياسية في الدول التي يمر عبرها. فإذا قررت إحدى هذه العواصم التراجع تحت ضغط شعبي أو سياسي، فإن إسرائيل ستفقد البديل الوحيد المتبقي لها، لتواجه حينها عزلة شبه كاملة.
وعلى المدى الطويل، يُظهر هذا الوضع هشاشة غير مسبوقة في بنية التجارة الإسرائيلية. فبينما كانت تعتمد لعقود على قوتها العسكرية لحماية حرية الملاحة، تجد نفسها اليوم أمام حصار متدرج يجمع بين الضغط الشعبي الأوروبي، والإغلاق العسكري في البحر الأحمر، وارتباطها بمسارات برية مشبوهة لا تملك السيطرة عليها.
من إغلاق باب المندب بقرار من صنعاء، إلى تشدد الموانئ الأوروبية، وصولاً إلى الاعتماد على جسر بري عبر دول عربية، باتت إسرائيل تواجه معركة اقتصادية لا تقل خطورة عن معاركها العسكرية. هذه التطورات لا تعكس فقط تراجعاً في حرية الملاحة الإسرائيلية، بل تكشف أيضاً عن تغير في موازين القوة الإقليمية والدولية.
وبحسب اطلاع بقش على تقارير هآرتس ووكالات دولية، فإن إسرائيل تدخل مرحلة جديدة من العزلة التجارية، حيث لم تعد تتحكم وحدها في مسارات التجارة، بل أصبحت أسيرة قرارات دول بعيدة مثل إسبانيا أو اليمن، أو حتى دول عربية قررت فتح أراضيها لمرور البضائع.
هذا المشهد يشي بأن الحصار الاقتصادي على إسرائيل لم يعد احتمالاً نظرياً، بل واقعاً يتشكل يوماً بعد يوم، وقد يفرض على قادة الاحتلال إعادة النظر في إستراتيجياتهم العسكرية والسياسية، بعدما تحولت التجارة نفسها إلى ميدان صراع مفتوح.