واشنطن تُعلن رغبتها في إلغاء “قيصر” لكن يدها لا تزال على صمّام الاقتصاد السوري

الاقتصاد العربي | بقش
من جديد، تتحدّث واشنطن بلغة الرفق والإنسانية، لكن على الأرض تبقى حقول النفط السورية محروسة بعلمٍ أمريكي لا يغيب.
فجر اليوم الأربعاء، دعت غرفة التجارة الأمريكية الكونغرس إلى إلغاء قانون “قيصر” للعقوبات على سوريا، بذريعة أنه “لم يعد يخدم المصالح الأمريكية بعد تشكيل حكومة انتقالية جديدة في دمشق” حسب اطلاع مرصد “بقش”. لكن خلف هذه اللغة الناعمة، تلوح قراءة مختلفة: هل تتحرك واشنطن بدافع “إنساني”، أم بحثاً عن فرصة جديدة للاستثمار في إعادة الإعمار والموارد؟
البيان بدا أشبه بتلميع سياسي لواشنطن أكثر من كونه مراجعة لسياساتها. فلو كانت أمريكا حقاً “تريد الخير لسوريا”، لكانت سلّمت المناطق النفطية التي تسيطر عليها في الشرق إلى أصحابها، بدلاً من تركها تُدار تحت إشرافٍ عسكري واقتصادي أمريكي مباشر.
خاطبت غرفة التجارة الأمريكية لجان الكونغرس الرئيسية مطالبةً بـ”إلغاء كامل ودائم لقانون قيصر”، معتبرةً أن استمرار العقوبات “يضر بالشعب السوري” ويمنع الشركات الأمريكية من الاستثمار في السوق السورية.
لكن هذا الخطاب “الإنساني” يأتي من الجهة نفسها التي تمثل مصالح الشركات الكبرى، تلك التي ترى في إعادة إعمار سوريا فرصة استثمارية كبرى، وليست مسؤولية أخلاقية.
في رسالتها التي طالعها بقش، قالت الغرفة إن إلغاء القانون سيُعزز “الاستقرار الإقليمي وازدهار الشعب السوري”، وهو تعبير يتكرر عادة قبل دخول رأس المال الأمريكي إلى مناطق أنهكتها الحروب.
وفي الوقت الذي تُحمّل فيه العقوبات مسؤولية الفقر والبطالة، تتجاهل الغرفة تماماً أن أمريكا نفسها هي من عطّل عجلة الاقتصاد السوري عبر السيطرة على موارد النفط والغاز في دير الزور والحسكة منذ سنوات.
باراك: “الوقت حان لإعطاء سوريا فرصة”
المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك، تبنّى اللهجة نفسها حين قال إن “قانون قيصر أدى غرضه وحان الوقت لإعطاء سوريا فرصة”. تصريحات تبدو في ظاهرها تصالحية، لكنها تُثير أسئلة أكثر مما تجيب: أي فرصة يتحدث عنها باراك؟.
الفرصة في إعادة الإعمار، أم في إعادة فتح الأسواق السورية أمام الشركات الأمريكية بعد أن مهّد قانون “قيصر” الطريق أمام إقصاء المنافسين الروس والإيرانيين؟
يقول باراك إن العقوبات “لم تعد تواكب الواقع الجديد”، مشيداً بما أسماه “المصالحة السورية وانخراط الحكومة الجديدة في محادثات مع إسرائيل”، وكأن رفع العقوبات مشروطٌ بالاقتراب السياسي من واشنطن وتل أبيب.
ولم يغفل المبعوث الأمريكي الإشارة إلى “المعلم والمزارع السوري” المتضرر، بينما تتواصل قوافل النفط الخارجة من شرق البلاد باتجاه القواعد الأمريكية نفسها التي ترفع شعار “مساعدة الشعب السوري”.
بين الإعمار والهيمنة… اقتصاد مرهون للسياسة
تتحدث واشنطن عن “إعادة إعمار سوريا”، لكنها لا تُخفي طموحها في أن تكون المموّل والمشرف والشريك في الوقت نفسه.
رفع العقوبات – إن تم فعلاً – سيمنح الشركات الأمريكية موطئ قدم قانوني في السوق السورية وفق قراءة بقش، لكنه في الوقت نفسه سيُبقي خطوط الطاقة والموارد الحساسة تحت إدارة القوات الأمريكية أو الشركات المتحالفة معها.
وبينما يُروَّج للخطوة على أنها بادرة “حسن نية”، فإنها عملياً تؤسس لمرحلة جديدة من النفوذ الاقتصادي الذي قد يوازي في تأثيره مرحلة الاحتلال العسكري.
أما الحديث عن “تعزيز الاستقرار الإقليمي”، فهو المصطلح الأمريكي المعتاد الذي يسبق كل تمدّد اقتصادي أو إعادة تموضع في منطقة مضطربة.
فكما حصل في العراق وليبيا، تتحوّل “الاستثمارات” سريعاً إلى أدوات ضغط سياسي واقتصادي تجعل من السيادة مجرد بند تفاوضي في عقود الشركات.
تبدو واشنطن وكأنها اكتشفت فجأة أن الشعب السوري يستحق الحياة، لكنها في الواقع تكتشف أن النفط السوري ما زال يستحق البقاء تحت إدارتها. إلغاء قانون “قيصر” ليس بالضرورة دليلاً على حسن النية، بل ربما مقدمة لعودةٍ ناعمة من بوابة “الإنعاش الاقتصادي”، بعد أن فشلت سياسة الحصار في تحقيق أهدافها السياسية.
وما بين الخطاب الدبلوماسي المليء بكلمات “الأمل والمصالحة”، وبين الوقائع الميدانية التي تُظهر استمرار الوجود الأمريكي على منابع النفط، يبقى السؤال معلقاً: هل رفعت أمريكا العقوبات عن سوريا… أم رفعت الغطاء الأخلاقي عن أطماعها هناك؟.