وسط اعتراض بلجيكي.. تصاعد الخلاف الأوروبي حول استخدام الأصول الروسية لتمويل دعم أوكرانيا

الاقتصاد الدولي | بقش
في وقت تسعى فيه المفوضية الأوروبية لتعزيز جبهة الدعم المالي لأوكرانيا، تقف بلجيكا في قلب نقاش أوروبي متصاعد حول مصير نحو 190 مليار يورو من الأصول الروسية المجمدة. فبينما تميل برلين وعدد من العواصم الغربية إلى توجيه هذه الأموال نحو تمويل قرض ضخم بقيمة 140 مليار يورو لصالح كييف، لا تزال بروكسل -حيث مقر مؤسسة “يورو كلير” المالية- مترددة في تحمّل المخاطر القانونية والمالية لمثل هذه الخطوة، ما يثير توترات داخل التكتل.
هذا الجدل يعكس مفترق طرق أوروبي دقيق، بين رغبة متزايدة في فرض تكلفة الحرب على موسكو، وبين خشية من تبعات قانونية واقتصادية قد تفتح الباب على نزاعات طويلة الأمد.
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، جُمّدت أصول سيادية روسية بقيمة تقارب 190 مليار يورو داخل مؤسسة “يورو كلير” في بروكسل.
وعلى مدى عامين، تبنت أغلب الدول الأوروبية نهجاً حذراً في التعامل مع هذه الأموال، خشية الدخول في متاهات قانونية قد تشمل انتهاك حقوق ملكية أو إثارة نزاعات أمام المحاكم الدولية.
لكن هذا الموقف بدأ يتغير مؤخراً وفق متابعات بقش، فقد دفعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حلفاءها في مجموعة السبع إلى “مصادرة أو استخدام” هذه الأصول بشكل مباشر لتمويل الدفاع الأوكراني، وهو ما لاقى صدى في برلين وعواصم أوروبية أخرى. المستشار الألماني فريدريش ميرتس دعا علناً إلى توجيه 140 مليار يورو من هذه الأموال إلى “قرض تعويضات” مخصص لتسليح أوكرانيا.
في المقابل، عرضت المفوضية الأوروبية تصوراً لكيفية هيكلة هذا القرض بما يتيح استخدام عوائد الأصول المجمدة، مع التأكيد على أن هذه الخطوة لا ترقى إلى مصادرة مباشرة للأصول، وأنها تستند إلى صلاحيات مالية وقانونية داخل الاتحاد الأوروبي.
بلجيكا ترفع الكوابح: مخاوف قانونية ومالية واضحة
رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي فيفر وضع خطوطاً حمراء أمام هذا التوجه الأوروبي. ففي اجتماع مع نظرائه، طلب من الدول الـ26 الأخرى في الاتحاد تغطية المخاطر القانونية والمالية كاملة، بما في ذلك أي التزامات مستقبلية إذا ما تعثرت أوكرانيا في السداد.
هذا الموقف البلجيكي أثار استياءاً واسعاً، خاصة وأن أرباح “يورو كلير” تخضع للضرائب البلجيكية، ما يعني أن بروكسل تستفيد مالياً من تجميد هذه الأموال.
دبلوماسي أوروبي بارز قال إن “بلجيكا أمضت ثلاث سنوات تؤكد أن يورو كلير بلجيكية، لكن عندما حان وقت تقاسم المخاطر، قالت إنها أوروبية”. وقد بدأ صبر عدد من العواصم الأوروبية ينفد مع اقتراب جولة جديدة من المحادثات الحاسمة حول القرض.
في محاولة لتهدئة المخاوف، أضافت المفوضية بنداً يسمح بتغطية القرض عبر التزامات وطنية طارئة إذا ما بدأت روسيا بدفع تعويضات الحرب مستقبلاً، معتبرة أن المخاطر على بلجيكا “محدودة وقابلة للإدارة”. لكن بروكسل تصر على أن الضمانات الحالية “غير كافية”.
أبعاد سياسية وتضامنية.. أوروبا منقسمة
وراء الخلاف القانوني تقف أبعاد سياسية لا تقل أهمية، فبلجيكا، التي جمعت نحو 3.6 مليار يورو من الضرائب المفروضة على أرباح الأصول الروسية منذ 2022 حسب اطلاع بقش، تتعرض لاتهامات غير مباشرة بأنها “تستفيد من الحرب” برفضها المشاركة في المخاطر، خصوصًا وأنها قدمت مستوى متدنياً من الدعم العسكري لكييف مقارنة بدول مثل الدنمارك والسويد وألمانيا.
في المقابل، ترى بروكسل أن ما تقوم به هو دفاع عن المصلحة الوطنية، وأنه من “الضروري توضيح الخطوط الحمراء” في مواجهة ضغط أوروبي متصاعد. غير أن قادة أوروبيين آخرين، مثل رئيسة وزراء الدنمارك مته فريدريكسن، يردون بالقول: “إذا لم تكن هذه هي الوسيلة، فما البديل؟”، في إشارة إلى غياب خطط تمويل بديلة بحجم 140 مليار يورو.
تسعى المفوضية الأوروبية إلى التوصل لاتفاق نهائي بشأن القرض بحلول ديسمبر المقبل، بحيث تبدأ أولى عمليات الصرف في الربع الثاني من عام 2026، لكن استمرار الموقف البلجيكي دون تعديل قد يعطّل الجدول الزمني ويكشف الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.
خطوة غير مسبوقة تحمل تداعيات بعيدة المدى
يُعد استخدام الأصول السيادية المجمدة لتمويل حرب طرف ثالث خطوة غير مسبوقة في السياسة المالية الأوروبية الحديثة، وهو ما يجعل الجدل البلجيكي أكثر من مجرد مناورة سياسية وفق قراءة بقش. فهذه الخطوة قد تفتح الباب أمام معارك قضائية معقدة، سواء أمام محاكم دولية أو في إطار منظمة التجارة العالمية، كما قد تؤثر على ثقة المستثمرين العالميين في أمان أصولهم داخل النظام المالي الأوروبي.
علاوة على ذلك، فإن ربط مستقبل القرض بقدرة أوكرانيا على السداد وبالتحولات المستقبلية في الحرب يضيف عنصراً من عدم اليقين المالي، وهو ما يفسر تشدد بلجيكا. لكنها في الوقت ذاته تواجه خطر الظهور كـ”معرقل وحيد” لمشروع تضامني أوروبي كبير، ما قد ينعكس سلباً على علاقاتها داخل الاتحاد.
في النهاية، يظهر هذا الملف كيف يتقاطع القانون بالسياسة، والمال بالأمن، في واحدة من أكثر القضايا حساسية في أوروبا منذ بداية الحرب الأوكرانية، مع تداعيات محتملة لا تتعلق فقط بكييف وموسكو، بل بمستقبل النظام المالي الأوروبي نفسه.