
تقارير | بقش
في أكثر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تعقيداً في أمريكا، أعلنت 25 ولاية ومعها العاصمة واشنطن عن رفع دعوى قضائية ضد إدارة الرئيس دونالد ترامب، احتجاجاً على وقف تمويل برنامج المساعدة الغذائية التكميلية (SNAP) ابتداءً من يوم السبت (01 نوفمبر 2025)، وهو البرنامج الذي يشكل عصب شبكة الأمان الاجتماعي الأمريكية منذ أكثر من 50 عاماً، ويعتمد عليه أكثر من 40 مليون مواطن من ذوي الدخل المنخفض.
ووفقاً للدعوى التي تابع مرصد “بقش” مجرياتها ويقودُها مدّعون عامّون من الحزب الديمقراطي، فإن قرار إدارة ترامب بوقف التمويل يشكل سابقة خطيرة تحرم أكثر من 40 مليون مواطن أمريكي من الغذاء لأول مرة في تاريخ البرنامج.
يأتي ذلك في سياق الإغلاق الحكومي الأمريكي الذي بدأ في 01 أكتوبر الجاري، دون حلول تلوح في الأفق حتى الآن، وسط خلافات مستمرة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس على تمرير مشروع تمويل مؤقت ينقذ البلاد المغلقة من وضعها الراهن الذي أدى إلى وقف معظم موظفي الوكالات والوزارات والهيئات وتعطيل صرف رواتبهم.
الولايات الـ25 طالبت الحكومة الأمريكية باستخدام صندوق الطوارئ البالغ 6 مليارات دولار لتغطية النقص في التمويل، لكن وزارة الزراعة الأمريكية رفضت ذلك بحجة وجوب الاحتفاظ بالمبلغ لمواجهة كوارث مستقبلية محتملة، وذكرت الوزارة في بيانٍ اطلع عليه بقش أن “التمويل قد جفّ”، وحذّرت من أن المساعدات الغذائية قد تتوقف كلياً مع مطلع شهر نوفمبر المقبل.
ردود فعل عنيفة
الموقف الفيدرالي أثار ردود فعل غاضبة في الأوساط السياسية والاجتماعية. الديمقراطي “غافين نيوسوم” حاكم ولاية “كاليفورنيا” الذي يُعد من خصوم ترامب، وصف قرار الرئيس الأمريكي بأنه “عمل قاسٍ يعكس غياب الإنسانية”، وأكد أن “حرمان الفقراء من الطعام بينما يتباهى الرئيس في جولاته الخارجية يُظهر انفصالاً خطيراً عن واقع الأمريكيين”.
وانتقد جيه بي بريتزكر، حاكم ولاية “إلينوي”، قرار ترامب، وقال إن الأسر العاملة “على وشك أن تُحرم من المساعدات الغذائية لأن ترامب والجمهوريين في الكونجرس يسعون لتحقيق مكاسب سياسية ويرفضون التوصل إلى اتفاق”. وأضاف بريتزكر: “بإمكانهم توفير المال لدفع رواتب عملاء فيدراليين ملثمين يُلحقون الضرر بمجتمعاتنا، لكنهم لا يستطيعون مساعدة المحتاجين على توفير لقمة العيش”.
ووفق قراءة بقش، سيؤثر قطع قسائم الطعام سلباً على ملايين العمال ذوي الأجور المتدنية، بالإضافة إلى كبار السن والمحاربين القدامى والعديد من الأمريكيين الضعفاء. وقد صرحت شارون باروت، رئيسة مركز أولويات الميزانية والسياسات، قائلةً إن “الناس يتلقون مساعدات سناب في كل أنحاء البلاد وفي كل ولاية، وهو أمر مقلق أن نحتفظ بمليارات الدولارات التي كان من الممكن استخدامها كمساعدات غذائية للمحتاجين، ثم نرفض صرفها”.
في المقابل، ردت وزارة الزراعة الأمريكية باتهام الديمقراطيين بأنهم السبب في استنزاف التمويل نتيجة استمرار الإغلاق الحكومي الذي يكاد يُنهي شهراً كاملاً، واعتبرت الوزارة أن “الحل يكمن في إعادة فتح الحكومة، لا في استنزاف موارد الطوارئ المحدودة”.
هذا التصعيد يأتي في إطار أزمة تمويلية كبرى تعاني منها الولايات المتحدة نتيجة الإغلاق الحكومي الأطول منذ عقد، الذي جمّد مخصصات العديد من البرامج الاجتماعية والصحية.
ورغم المحاولات المتكررة في الكونغرس للتوصل إلى اتفاق حول الموازنة، فإن الخلاف السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين ما زال يمنع تمرير أي حزمة تمويل جديدة، الأمر الذي فاقم التوتر بين الحكومة الفيدرالية والولايات.
وفقاً لمركز أولويات الموازنة والسياسات العامة، فإن الأموال الاحتياطية المتبقية “لن تغطي سوى 60% من شهر واحد”، في حين يبلغ متوسط الدعم الشهري لأسرة من أربعة أفراد نحو 715 دولاراً، أي ما يعادل أقل من 6 دولارات يومياً للفرد الواحد حسب اطلاع بقش، وهو مبلغ لا يضمن الحد الأدنى من الأمن الغذائي في بلد يُعد الاقتصاد الأكبر ومن أغنى دول العالم.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً اليوم الخميس طالعه بقش، قالت فيه إن إغلاق الحكومة بالنسبة للكثير من الأمريكيين “يمثل تجربة مؤلمة”، وإن ترامب يستغل هذا الإغلاق ويستغل معاناة الأمريكيين والعمال “في إطار مساعيه لسحق الديمقراطيين”.
حيث “دأب الرئيس الأمريكي على معاملة العمال كبيادق، مستخدماً حساباتٍ قاسية مفادها أنه كلما ساءت أحوال العمال، زاد الضغط على الديمقراطيين في الكونغرس للتظاهر بالبراءة وإنهاء الإغلاق بشروطه” وفقاً للغارديان، مضيفة: “لا تقتصر تصرفات ترامب المتعلقة بالإغلاق الحكومي على كونها معاديةً للعمال بشكل صارخ، بل يقول خبراء قانونيون إن العديد منها ينتهك القانون الفيدرالي”.
محاولات محلية يائسة.. والهُوّة تتسع
بعض الولايات، مثل ماساتشوستس وكاليفورنيا، أعلنت نيتها استخدام مواردها الخاصة لتأمين الغذاء للأسر الفقيرة مؤقتاً، إلا أن معظم الولايات الأخرى أقرت بعجزها عن تعويض التمويل الفيدرالي.
هذه التطورات تفتح الباب أمام موجة جوع جديدة قد تضرب ملايين الأمريكيين، خصوصاً الأطفال وكبار السن، وسط تحذيرات من منظمات إنسانية من تفاقم سوء التغذية وتدهور الصحة العامة.
وتتجاوز القضية بُعدها الاقتصادي إلى بُعد سياسي وانتخابي واضح، إذ يرى مراقبون أن إدارة ترامب تسعى لاستخدام الورقة التمويلية للضغط على الكونغرس والديمقراطيين في مفاوضات الموازنة، بينما تحاول الولايات الديمقراطية تصوير القرار كدليل على “قسوة السياسات الجمهورية” تجاه الطبقات الفقيرة.
ويحذر محللون من أن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى تصدُّع في العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات، خاصةً إذا ما بدأت هذه الأخيرة بالتصرف باستقلالية مالية أكبر لتأمين احتياجات مواطنيها.
ويبدو أن أزمة الغذاء الراهنة ليست سوى وجه جديد لأزمة أعمق تضرب الولايات المتحدة منذ أسابيع، عنوانها الشلل الحكومي والاختناق المالي.
ففي الوقت الذي تتعطل فيه مؤسسات الدولة عن العمل، وتتعثر برامج الرعاية الاجتماعية، تتسع الهوة بين واشنطن والولايات، وبين الطبقات الغنية والفقيرة، في مشهد يختصر تحديات النظام الفيدرالي الأمريكي عندما يصطدم بالسياسة الحزبية.
واستمرار الإغلاق الحكومي وحرمان عشرات الملايين من الأمريكيين من الغذاء يضع إدارة ترامب أمام اختبار أخلاقي واقتصادي صعب، وقد يحدد مصيرها السياسي في الأشهر المقبلة، خصوصاً إذا ما تحول الجوع إلى أداة احتجاج جماهيري في قلب الولايات المتحدة، ما يعني ارتباكاً حقيقياً في أركان إدارة ترامب الذي استعاد الرئاسة للتو ولم يُنهِ عاماً كاملاً بعدُ وقد انقلب الداخل الأمريكي رأساً على عقب.


