75 ألف دولار في الثانية: وتيرة متسارعة تضع الدين الأمريكي على مسار خطير

الاقتصاد العالمي | بقش
يشهد الدين العام الأمريكي نمواً متسارعاً يثير قلق الأوساط الاقتصادية والمالية، في ظل استمرار العجز الهيكلي في الميزانية الفيدرالية واتساع فجوة الإنفاق. ووفق تقديرات حديثة تتبَّعها “بقش”، بات الدين الأمريكي يرتفع بمعدل يتجاوز 75 ألف دولار في الثانية الواحدة، وهو رقم يعكس حجم الاختلال المزمن في إدارة المالية العامة لأكبر اقتصاد في العالم.
هذا التسارع اللافت لم يعد مجرد رقم إحصائي، بل مؤشر على مسار طويل الأمد من الاعتماد المتزايد على الاقتراض لتمويل الإنفاق الحكومي، في وقت ترتفع فيه تكاليف خدمة الدين مع صعود أسعار الفائدة، وتتقلص فيه هوامش المناورة المالية أمام صانعي القرار في واشنطن.
تقرير الإنفاق الفيدرالي السنوي، الذي أعده السيناتور راند بول، يسلط الضوء على عمق الأزمة، ويقدم صورة رقمية دقيقة لكيفية تراكم الدين بوتيرة غير مسبوقة تاريخياً، حتى في الفترات التي لم تشهد أزمات اقتصادية كبرى أو حروباً عالمية شاملة.
ويأتي هذا التحذير في لحظة سياسية حساسة، تتزامن مع نقاشات داخل الكونغرس حول أولويات الإنفاق، ومستقبل برامج الدعم الاجتماعي، وحدود الاستدانة، في ظل انقسام حاد حول سبل احتواء الدين دون إلحاق ضرر بالنمو الاقتصادي.
أرقام صادمة: تريليونات تُضاف بلا توقف
بحسب تقديرات التقرير، من المتوقع أن تضيف الولايات المتحدة خلال العقد المقبل ما متوسطه 2.39 تريليون دولار من الديون سنوياً وفق اطلاع بقش. هذا يعني عملياً ضخ أكثر من 6.53 مليار دولار من الديون الجديدة يومياً، أو ما يعادل 272 مليون دولار في الساعة، وصولاً إلى نحو 4.54 مليون دولار في الدقيقة الواحدة.
هذه الأرقام لا تعكس فقط توسع الإنفاق، بل تكشف عن فجوة هيكلية بين الإيرادات الفيدرالية والنفقات، وهي فجوة لم تنجح الإدارات المتعاقبة في ردمها رغم تعهدات متكررة بإعادة الانضباط المالي.
ويحذر اقتصاديون من أن استمرار هذا المسار قد يؤدي إلى تقليص قدرة الحكومة الأمريكية على الاستجابة للأزمات المستقبلية، سواء كانت اقتصادية أو جيوسياسية، إذ إن ارتفاع الدين يقيد خيارات التحفيز المالي ويرفع كلفة أي تدخل حكومي واسع.
كما أن هذا التسارع في الاقتراض يعمّق اعتماد الخزانة الأمريكية على الأسواق المالية والمستثمرين الأجانب، ما يفتح الباب أمام مخاطر مرتبطة بتقلبات الثقة في الدين السيادي الأمريكي على المدى البعيد.
خفض الإنفاق: إجراءات رمزية أمام جبل الديون
في هذا السياق، وصف السيناتور راند بول قرار الرئيس دونالد ترامب خفض نحو 5 مليارات دولار من المساعدات الخارجية وتمويل المنظمات الدولية بأنه خطوة محدودة الأثر، لا ترقى إلى مستوى التحدي القائم. واعتبر أن هذا الخفض لا يتجاوز كونه «قطرة في المحيط» مقارنة بالحجم الكلي للإنفاق الحكومي.
ويعكس هذا التوصيف فجوة واضحة بين الإجراءات السياسية المعلنة وحجم المشكلة الفعلية، إذ إن خفضاً بهذا الحجم لا يغير المسار العام للدين ولا يحد من تسارع نموه، في ظل إنفاق سنوي يتجاوز التريليونات.
ويرى منتقدو السياسات المالية الحالية أن التركيز على بنود إنفاق محددة دون معالجة البنية الكلية للميزانية، بما في ذلك برامج الاستحقاقات الكبرى والإنفاق الدفاعي وخدمة الدين، لن يؤدي إلا إلى تأجيل الأزمة لا حلها.
وتبرز هنا إشكالية سياسية مزمنة، تتمثل في صعوبة تمرير إصلاحات مالية جذرية في نظام ديمقراطي، حيث تُعد أي محاولة لخفض الإنفاق أو رفع الضرائب خطوة محفوفة بالمخاطر الانتخابية.
خدمة الدين: الفوائد تلتهم الميزانية
تشير حسابات التقرير إلى أن إجمالي الإنفاق الحكومي في عام 2025 بلغ نحو 1.64 تريليون دولار، من بينها حوالي 1.22 تريليون دولار خُصصت فقط لسداد فوائد الدين الوطني حسب قراءة بقش. هذا الرقم يعكس مدى الثقل الذي باتت تمثله خدمة الدين على الميزانية الفيدرالية.
ومع ارتفاع أسعار الفائدة خلال الأعوام الأخيرة، أصبحت تكلفة الاقتراض عبئاً متنامياً، ما يعني أن جزءاً متزايداً من الإيرادات الحكومية يذهب لسداد فوائد ديون سابقة، بدلاً من توجيهه للاستثمار أو البنية التحتية أو التعليم.
هذا الواقع يخلق حلقة مفرغة، حيث يؤدي ارتفاع الدين إلى زيادة الفوائد، ما يستدعي اقتراضاً إضافياً لتغطية النفقات، وهو ما يعمّق الأزمة بدل احتوائها.
ويحذر خبراء من أن استمرار هذا الاتجاه قد يدفع الولايات المتحدة مستقبلاً إلى خيارات صعبة، مثل خفض حاد للإنفاق أو زيادات ضريبية مؤلمة، لتجنب انفلات الدين عن السيطرة.
يتجاوز الدين الوطني الأمريكي حالياً 38.5 تريليون دولار حسب البيانات التي يتابعها بقش، أي ما يعادل أكثر من 112 ألف دولار لكل فرد يعيش في الولايات المتحدة. ويُعد هذا الرقم مؤشراً على حجم العبء الذي يتم ترحيله إلى الأجيال القادمة، سواء عبر الضرائب أو تراجع الخدمات العامة.
ويرى اقتصاديون أن تحقيق توازن في الميزانية الفيدرالية لا يزال ممكناً خلال عقد من الزمن، لكنه يتطلب تغييرات جوهرية، تشمل ربط الإنفاق بمعدل نمو الإيرادات، وأخذ التضخم والنمو السكاني في الحسبان، إلى جانب تقليص الإنفاق غير الفعال.
غير أن هذه الإصلاحات تتطلب توافقاً سياسياً نادراً، وإرادة جماعية لمواجهة قرارات غير شعبية، وهو ما يجعل المسار الإصلاحي أكثر تعقيداً في بيئة سياسية منقسمة.
وفي المحصلة، لا يعكس تسارع الدين الأمريكي أزمة مالية آنية بقدر ما يكشف عن تحدٍ بنيوي طويل الأمد، يضع الاقتصاد الأمريكي أمام مفترق طرق حاسم بين الاستمرار في مسار الاقتراض المفتوح، أو الشروع في إصلاحات مؤلمة لكن ضرورية لاستدامة المالية العامة.


