
في إنجازٍ تكنولوجي يُعزز مكانتها كرائدة في مجال الابتكارات البيئية، كشفت الصين النقاب عن أول سفينة عائمة في العالم مخصصة لإنتاج النفط وتخزينه، مُجهزة بتقنية متطورة لالتقاط انبعاثات الكربون، في خطوة تُوصف بأنها “ثورية” نحو تخضير الصناعات الثقيلة.
جاء الإعلان عن هذا المشروع خلال فعاليات تقنية بحرية في مدينة شانغهاي، حيث أكد مسؤولون صينيون أن السفينة الجديدة ستلعب دوراً محورياً في مساعي البلاد لتحقيق هدفها المتمثل في الوصول إلى حياد الكربون بحلول عام 2060.
الوحدة البحرية، التي أُطلق عليها اسم “المُنتج العائم الأخضر”، تم تطويرها بواسطة شركة كوسكو أوشن شيبينغ التابعة للدولة، ويبلغ طولها 330 متراً، مع قدرة إنتاجية تصل إلى 120 ألف برميل نفط يومياً. تتميز السفينة بعدة خصائص مبتكرة، أبرزها قدرتها على احتجاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث أثناء عمليات الإنتاج، وتحويله إلى طاقة قابلة للتخزين أو إعادة الاستخدام، بالإضافة إلى توليد الكهرباء من حرارة غازات العادم، مما يرفع كفاءة استهلاك الطاقة ويقلل الهدر. وتُعتبر هذه المنصة العائمة الأولى من نوعها التي تجمع بين ثلاث وظائف رئيسية: الإنتاج النفطي، التخزين، والتفريغ، في نظام متكامل يهدف إلى تقليل البصمة الكربونية للعمليات البحرية.
هذا الإنجاز يأتي في سياق عالمي تشتد فيه الحاجة إلى حلول جذرية لمواجهة أزمة المناخ، حيث تشير بيانات وكالة الطاقة الدولية إلى أن عمليات استخراج النفط والغاز أنتجت عام 2022 نحو 5.1 مليار طن من انبعاثات الغازات الدفيئة، ما يعادل 15% من إجمالي الانبعاثات المرتبطة بالطاقة على مستوى العالم. وتُعد تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه إحدى الركائز الأساسية لخفض هذه الانبعاثات، خاصة في الصناعات التي يصعب إزالة الكربون منها، مثل النفط والغاز.
أمريكا تدخل على الخط بمنصة عائمة متطورة
في سباق تكنولوجي محتدم، لا تقتصر الجهود على الصين، ففي يناير 2024، وافقت هيئة الشحن الأمريكية على تصميم منصة عائمة لإنتاج الأمونيا مزودة بتقنية احتجاز الكربون، بينما تعمل الشركة الهولندية SBM Offshore على تطوير وحدات مماثلة. إلا أن الصين تسبق منافسيها بتشغيل نموذجها عملياً، مدعومة باستثمارات ضخمة في البنية التحتية الخضراء، حيث أنفقت البلاد عام 2023 نحو 546 مليار دولار على مشاريع الطاقة المتجددة، وفقاً لوكالة بلومبيرغ.
كأكبر مصدر للانبعاثات الكربونية عالمياً، توازن الصين بين نموها الصناعي السريع وأهدافها المناخية عبر سلسلة إجراءات طموحة. فبالإضافة إلى السفينة الجديدة، أطلقت الشركة الوطنية الصينية للنفط البحري أول مشروع تجريبي لالتقاط الكربون وتخزينه في حقل “إنبينغ 15-1” النفطي بمقاطعة قوانغدونغ الجنوبية، الذي يستطيع تخزين 1.5 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وهو ما يعادل زراعة 14 مليون شجرة. كما تعمل بكين على تعزيز التعاون الدولي عبر مبادرات مثل “الحزام والطريق الأخضر”، لتصدير تقنياتها الصديقة للبيئة.
رغم التفاؤل بالإنجاز الصيني، يواجه تطبيق تقنيات احتجاز الكربون على نطاق واسع تحديات جسيمة، أبرزها التكلفة التشغيلية العالية التي تتطلب دعم حكومات أو فرض رسوم على انبعاثات الكربون، إضافة إلى التعقيدات الفنية المرتبطة بالتخزين الآمن تحت سطح البحر، خاصة في المناطق ذات الحساسية البيئية. كما أن اعتماد الصناعة العالمية على الوقود الأحفوري يعني ضرورة تكرار النموذج الصيني على آلاف المنصات البحرية لتحقيق تأثير ملموس على الانبعاثات العالمية.
من جهة أخرى، يشدد علماء المناخ على أن خفض الانبعاثات يجب أن يكون أسرع مما هو عليه الآن، لتجنب تجاوز ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الصناعة، وهو الهدف الذي حددته اتفاقية باريس للمناخ. وفي هذا الصدد، يُعتبر احتجاز الكربون أحد الحلول “الجسرية” التي يمكن أن تساعد في كسب الوقت حتى اكتمال التحول إلى الطاقة النظيفة.
يرى محللون أن السفينة الصينية الجديدة تمثل “دليلاً تقنياً” على إمكانية دمج الصناعة النفطية مع متطلبات الاستدامة، لكنهم يحذرون من أن تحويلها إلى معيار صناعي يتطلب تعاوناً دولياً غير مسبوق، وضخ استثمارات بمليارات الدولارات. فهل ستكون هذه السفينة بداية لثورة خضراء في قطاع الطاقة البحري؟ أم أنها مجرد خطوة رمزية في معركة ضخمة ضد الزمن؟ الإجابة قد تحدد مصير الكوكب في العقود القادمة.