
تشهد سوق النفط العالمية تراجعاً ملحوظاً في حساسيتها تجاه السياسات الأمريكية المتقلبة تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، وفقاً لتحليلات بنوك استثمارية ومؤشرات تداول حديثة، في مؤشر على تحولات عميقة بآليات تفاعل السوق مع الأزمات الجيوسياسية.
سجل مؤشر التقلب الضمني لعقود خام برنت الذي يقيس توقعات المتداولين لتحركات الأسعار، أدنى مستوى له منذ يوليو 2023، متجاوزاً فترة تصاعد التوترات مع روسيا و إيران.
يأتي هذا التراجع رغم سلسلة الإجراءات التي أعلنها ترامب خلال الأسابيع الأولى من ولايته الثانية، والتي شملت هجوماً لفظياً على منظمة “أوبك” واتهامها بـ”التلاعب بالأسعار”، إلى جانب تهديدات بفرض رسوم جمركية على واردات النفط من كندا و المكسيك، ومبادرات لإنهاء الحرب في أوكرانيا عبر مفاوضات مع روسيا.
على عكس التوقعات، لم تُحدث هذه الخطوات تقلبات حادة في الأسعار، بل ظلت عقود برنت الآجلة مستقرة حول 75 دولاراً للبرميل، مع تأرجح محدود في نطاق أقل من 4 دولارات خلال فبراير الجاري.
تراجع الرهانات بارتفاع الأسعار على المدى القريب
في مذكرة بحثية حديثة، أشار محللو بنك “ستاندرد تشارترد”، بقيادة إميلي أشفورد، إلى أن السوق تُظهر “ارتباكاً أمام كم السياسات المتدفقة”، ما دفع المتداولين إلى تقليص المراهنات الصعودية بشكل قياسي.
وتراجعت العقود القائمة لخام غرب تكساس الوسيط إلى أدنى مستوى منذ نوفمبر، مع انخفاض أحجام التداول بنسبة ملحوظة مقارنة بذروتها في يناير.
“أشفورد” علقت: “لم يعد المتداولون يقيمون السياسات بمعزل عن بعضها، بل يواجهون سيلاً من العوامل المتضاربة مثل: عقوبات على إيران، محادثات أوكرانيا، إنتاج أمريكي قياسي، وخطوات ترامب غير المُتنبأ بها… كل هذا يجعل الرهانات الكبيرة مخاطرة غير محسوبة”.
تحالف أوبك+.. لاعبٌ رئيسي في كبح التقلبات
رغم الضغوط الأمريكية، لا يزال تحالف أوبك+ (بقيادة السعودية وروسيا) يلعب دوراً محورياً في استقرار السوق عبر خفض الإمدادات بما يكفي لتفادي انهيار الأسعار، والحفاظ على فائض إنتاجي يقدر بنحو 4 ملايين برميل يومياً، كـ”صمام أمان” لأي أزمات مفاجئة.
يُذكر أن العقوبات الأمريكية غير المسبوقة على روسيا خلال إدارة بايدن، والتي تسببت في صدمة أولية، فقدت جزءاً كبيراً من تأثيرها مع تعود السوق على التعامل مع الوضع الجديد.
مفارقة ترامب: تهديدات بلا تأثير دائم
شهدت الأسعار ارتفاعاً مؤقتاً بعد تهديدات ترامب بفرض رسوم على واردات النفط من كندا والمكسيك (مصدران رئيسيان للخام الأمريكي)، لكنها تراجعت سريعاً مع التقدم في محادثات أوكرانيا والمساعي الأمريكية لإنهاء الحرب والتي قد تُعيد إمدادات النفط الروسي تدريجياً.
إلى جانب ذلك تسببت زيادة الإنتاج الأمريكي أيضاً بتراجع الأسعار، حيث وصل الإنتاج الأمريكي إلى 13.3 مليون برميل يومياً وهو رقم قياسي، بالإضافة إلى إعادة ملء الاحتياطي الاستراتيجي عبر خطط لإضافة 3 ملايين برميل شهرياً.
في سياق متصل، تُواصل الإدارة الأمريكية تصعيد “العقوبات القصوى” على صادرات النفط الإيرانية (المقدرة بـ1.5 مليون برميل يومياً)، لكن تأثيرها يبقى محدوداً في ظل شبكات تهريب مُتطورة عبر آسيا، وعدم قدرة واشنطن على فرض الامتثال الكامل من قبل المشترين الصينيين.
توقعات 2025: سوقٌ بلا أفق
مراقبون يرون أن السوق دخلت مرحلة “اللايقين المُستدام”، حيث لم تعد الأحداث الجيوسياسية وحدها كافية لدفع الأسعار، وسط عوامل متزاحمة مثل تباطؤ النمو العالمي، وتحول الطاقة نحو المصادر المتجددة، بالإضافة إلى صعود استراتيجيات التحوط المعقدة لدى الشركات.
كما يُلاحظ انخفاض السيولة في العقود الآجلة، ما يجعل تحركات الأسعار أكثر عرضة للتأثر بمنشورات وسائل التواصل أو الأخبار العابرة، وفق تحذيرات بنك “ستاندرد تشارترد” البريطاني.
باتت سوق النفط أشبه بـ”مريض مناعة مكتسبة” ضد الصدمات قصيرة المدى، لكنها تظل هشة أمام أي أزمة مفاجئة تعطل الإمدادات على نطاق واسع. ووسط غياب بصيص تفاؤل حقيقي، يبدو أن السوق ستبقى في حالة ترقبٍ مُتوجس حتى نهاية 2025.