
تقارير | بقش
في تحرك جماعي هو الأوسع من نوعه منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أطلقت أكثر من 170 منظمة غير حكومية نداءً عاجلاً للمجتمع الدولي من جنيف، دعت فيه إلى تفكيك ما وصفته بـ”الخطة الشيطانية” لتوزيع المساعدات الغذائية التي تديرها الولايات المتحدة وإسرائيل في القطاع عبر ما يسمى بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”.
وأكدت المنظمات أن هذا النموذج المفروض على الفلسطينيين لا يخدم سوى تعميق المعاناة الإنسانية ويعرض المدنيين، بمن فيهم الأطفال، لخطر الموت أو الإصابة في كل محاولة للحصول على الطعام.
منذ بدء عمل المؤسسة أواخر مايو 2025، وثّقت مصادر طبية في غزة مقتل أكثر من 500 شخص في عمليات إطلاق نار وقعت قرب نقاط توزيع المساعدات، أو على طرق الإمداد التي تحرسها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتستخدم فيها شركات أمنية ولوجستية أمريكية خاصة.
وتشير منظمة أطباء بلا حدود إلى أن “الضحايا لم يُقتلوا برصاص عشوائي، بل بإطلاق نار مباشر ومتعمد في الصدر والبطن”، وفق ما صرّح به أيتور زابالغوجيازكوا، منسق الطوارئ لدى المنظمة في غزة.
وفي مؤتمر صحفي عبر الإنترنت، أكدت راشيل كامينغز، مديرة الشؤون الإنسانية لدى منظمة “أنقذوا الأطفال”، أن نصف الإصابات الجماعية المسجلة قرب مراكز توزيع الغذاء تضمّنت ضحايا من الأطفال، مضيفة: “قال لنا بعض الأطفال إنهم يريدون الموت، لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمّل الجوع، ويرغبون في الانضمام إلى ذويهم الذين قُتلوا… يريدون أن يكونوا في الجنة، حيث الطعام والماء.”
الوضع في غزة لا يمكن وصفه إلا بالكارثي، فبعد تسعة أشهر من الحرب الإسرائيلية المستمرة، يعاني القطاع من انهيار اقتصادي وإنساني شامل. أكثر من 37 ألف فلسطيني قُتلوا حتى الآن، معظمهم من النساء والأطفال، فيما شُرّد أكثر من 1.9 مليون شخص من منازلهم، أي ما يعادل أكثر من 85% من سكان القطاع.
وفقاً لبيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن أكثر من 96% من سكان غزة لا يحصلون على مياه صالحة للشرب، و90% من المرافق الصحية خارج الخدمة، بينما يعاني أكثر من 1.1 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، أي أنهم مهددون بالمجاعة الفعلية في أي لحظة.
الأمم المتحدة: الخطة الإسرائيلية “غير آمنة بطبيعتها”
رغم فظاعة المشهد، تصرّ إسرائيل، بدعم مباشر من الولايات المتحدة، على تنفيذ ما تسميه “خطة بديلة للمساعدات” عبر “مؤسسة غزة الإنسانية”، متجاوزة بذلك النظام الأممي التقليدي الذي لطالما اضطلع بتنسيق المساعدات الإنسانية في مناطق النزاعات، وتزعم إسرائيل أن النظام الأممي “تسلل إليه عناصر من حماس”، ما يبرر وفق رؤيتها فرض نظام توزيع جديد يخضع لرقابة أمنية مشددة.
الأمم المتحدة من جهتها أعربت عن قلقها العميق من الخطة، ووصفتها بأنها “انتهاك لمبادئ الحياد الإنساني” و”غير آمنة بطبيعتها”، مؤكدة أن هذا النموذج يعرض أرواح المدنيين للخطر ويكرّس الفوضى ويقوّض الجهود الدولية لتوفير الإغاثة العاجلة.
ورغم الانتقادات الدولية المتزايدة، لا تظهر المؤسسة الأمريكية-الإسرائيلية أي نية للتراجع، وقال متحدث باسم المؤسسة في تصريح لرويترز إنهم وزعوا أكثر من 52 مليون وجبة خلال خمسة أسابيع، متهماً منظمات إنسانية أخرى بأنها “فقدت السيطرة على مساعداتها أو سُرقت بالكامل”، وأضاف: “بدلاً من الانتقادات، نرحب بانضمام هذه المنظمات إلينا لتقديم المساعدة على الأرض”.
لكن الرد من المجتمع الإنساني كان حاسماً، فقد انضمت منظمات عريقة مثل أوكسفام، أطباء بلا حدود، منظمة إنقاذ الطفولة، المجلس النرويجي للاجئين، ومنظمة العفو الدولية إلى النداء المطالب بوقف الخطة، مؤكدين أن الفلسطينيين “باتوا أمام خيار مستحيل: إما الجوع أو التعرض لإطلاق النار أثناء محاولتهم البائسة للحصول على الغذاء.”
الوضع لا يهدد فقط الحاضر، بل يرسم مستقبلاً مظلماً لجيل كامل يُحرم من الحق في الحياة والتعليم والغذاء والرعاية الصحية. ومع غياب الحلول السياسية واستمرار الحرب دون أفق، يُخشى أن يتحول قطاع غزة إلى مقبرة جماعية وأرض محروقة، وسط صمت دولي مخزٍ وتواطؤ واضح من قوى تدّعي دعم حقوق الإنسان.