تعز تئن تحت العطش: أزمة المياه تدفع عائلات إلى النزوح وسط انهيار البنية الخدمية

متابعات محلية | بقش
في مؤشر خطير على تفاقم الكارثة الإنسانية في مدينة تعز، بدأت بعض الأسر بالفعل في النزوح من منازلها نحو الريف أو محافظات أخرى، هرباً من الجفاف القاتل الذي يهدد حياتهم اليومية. أزمة المياه التي تضرب المدينة منذ أكثر من شهرين لم تعد مجرد معاناة معيشية، بل تحولت إلى تهديد وجودي يدفع سكاناً إلى مغادرة مدينتهم المزدحمة بحثًا عن قطرة ماء.
شهود عيان أكدوا أنهم شاهدوا عائلات تنقل أثاثها على متن شاحنات، في مشهد أعاد للأذهان صور النزوح في زمن الحرب، لكنه هذه المرة ناجم عن “هجرة مناخية”، بحسب توصيف ناشطين بيئيين، يرون في هذا التحول مقدمة لأزمة أوسع إذا لم يتم التدخل العاجل.
تعاني تعز، ثالث أكبر مدن اليمن من حيث الكثافة السكانية، من انهيار متواصل في البنية التحتية، تفاقم بفعل الحرب، ومع دخول أزمة المياه شهرها الثاني، يعيش السكان حالة من الإنهاك التام. طوابير طويلة تمتد أمام محطات بيع المياه، في مشاهد مؤلمة يشارك فيها الأطفال والنساء والمسنون، وسط غياب تام للحلول الحكومية.
المياه النقية باتت نادرة، وأسعارها ارتفعت بشكل جنوني، ومع انقطاع المياه الحكومية، اضطر المواطنون للاعتماد على محطات تحلية المياه التجارية، والتي تبيع المياه بأسعار لا يستطيع الفقراء تحملها. في ظل ذلك، يبيت كثيرون بجانب المحطات، في انتظار دورهم للحصول على قنينة ماء.
سوق سوداء والسلطات تتفرج والمواطنون يحتجون
بحسب ما رصده مرصد “بقش”، ارتفع سعر صهريج المياه سعة 5000 لتر من 25 ألف ريال إلى ما بين 105 و120 ألف ريال، أما جالون مياه الشرب سعة 20 لتراً، فقفز من 150 ريالاً إلى أكثر من 2000 ريال، في ظل انعدام الرقابة واستغلال بعض أصحاب الآبار والتجار حاجة الناس.
يقول المواطنون إنهم يُجبرون أحياناً على الدفع بالعملة الصعبة أو بالعملة المحلية القديمة، في ظل شروط تعجيزية يفرضها بعض الملاك. ووفقاً لتصريحات الصحفي محمد السامعي، فإن هناك تمييزاً في توزيع المياه، واحتكاراً واضحاً من قبل بعض أصحاب المحطات، الذين يزودون بعض المواطنين ويتجاهلون آخرين، إضافة إلى رفع الأسعار بشكل تعسفي.
رغم حجم المعاناة، تواصل الجهات الحكومية تجاهلها للأزمة، بينما السكان يحمّلون السلطات المحلية والمركزية، وتحديداً المرتبطة بحزب الإصلاح، مسؤولية الانهيار في منظومة الخدمات، بما في ذلك المياه والكهرباء والوقود. ويؤكد المواطنون أن أزمة المياه تفاقمت بفعل الفساد الإداري، وتردي خدمات مؤسسة المياه والصرف الصحي، دون أي خطة واضحة لتشغيل آبار الضخ في مناطق مثل الضباب وشارع الثلاثين.
من جانبها، اكتفت الحكومة بالصمت أمام الأزمة، رغم تصاعد التحذيرات من كارثة وشيكة تهدد بانتشار الأوبئة، وسط التدهور الكامل للبنية التحتية في المدينة.
كارثة بيئية تلوح في الأفق
يحذر خبراء البيئة والمناخ من أن تعز على أعتاب كارثة إنسانية غير مسبوقة، مطالبين بإعلان حالة الطوارئ وتنفيذ خطة طارئة تشمل تأهيل شبكات المياه، وتوفير مصادر مستدامة مثل الحفر العميق، وتوسيع نطاق مشاريع التحلية. ويؤكد أحد المتخصصين في الاستدامة البيئية أن “تعز لا تواجه مجرد أزمة مياه، بل خطر وجودي كامل”، في ظل عجز البنية التحتية وغياب الاستجابة الرسمية.
وتنذر الأزمة بمخاطر أوسع تتجاوز الجفاف، مع تصاعد احتمالات تفشي الأمراض نتيجة غياب خدمات الصرف الصحي، وتراكم النفايات، وانعدام النظافة في مناطق مكتظة بالسكان.
في مقابل الغياب الحكومي، أطلق ناشطون حملات إعلامية وميدانية تحت وسوم مثل “تعز بدون ماء” و”تعز تشتي ماء”، مطالبة بتوفير المياه وضبط الأسعار. لكن هذه التحركات، رغم زخمها، لم تلقَ أي استجابة ملموسة حتى الآن من السلطات المحلية أو حكومة عدن.
ويشير ناشطون إلى أن استمرار الأزمة يهدد بانهيار تام للحياة في المدينة، محذرين من موجات نزوح جماعي قد تتحول إلى كارثة إنسانية صامتة إذا لم يتم التحرك العاجل.
نداء أخير قبل “العطش الجماعي”
تضع الأزمة الراهنة مدينة تعز أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما تدخل حكومي عاجل يوقف الانهيار المتسارع، أو انفجار إنساني على شكل هجرة مناخية جماعية في بلد لا يتحمل مزيداً من النزيف السكاني.
ويؤكد متابعون للوضع في المدينة، من خلال ما رصده “بقش”، أن المواطنين يواجهون الموت البطيء كل يوم، بينما تستمر مؤسسات الدولة في الغياب، في مشهد يختزل أزمة يمنية شاملة عنوانها: الناس تموت عطشاً… والحكومة لا ترى.