
تقارير | بقش
في مشهد يتكرر كل عام ويعكس الانحدار المأساوي للذاكرة الحضارية اليمنية، عُرضت في ديسمبر 2024 قطعتان أثريتان نادرتان من مملكتي سبأ وقتبان في مزاد أقامته دار “جورني وموش” في ألمانيا.
القطعة الأولى رأس شاب سبئي بملامح دقيقة، بأنف مستقيم وعينين واسعتين وحاجبين محفورين على هيئة أخاديد طويلة، فيما أظهرت الثانية رأساً قتبانياً لشاب نحِت من المرمر بملامح أكثر حدة وتفاصيل دقيقة في الشعر والعينين.
كلا القطعتين، بحسب خبير الآثار اليمني عبدالله محسن، كانتا جزءاً من مجموعات خاصة أوروبية تنقّلتا بين أيديها لسنوات قبل أن تجدا طريقهما إلى قاعات المزادات الأوروبية.

لم يكن ذلك المشهد جديداً على الذاكرة اليمنية المنهوبة، ففي نوفمبر 2009 شهدت باريس بيع وجه برونزي نادر بعيون مرصعة بالكالسيت وجبهة مزيّنة بخصلات مجعّدة، قطعة تعود إلى أواخر الألفية الأولى قبل الميلاد، اعتُبرت حينها من أروع مكتشفات الفن اليمني القديم.
مثل هذه القطع التي تخرج في ظروف غامضة من أرض اليمن، تُعرض اليوم على أنها تحف فنية نادرة، بينما هي في حقيقتها شواهد موثقة على عمق حضاري يعود لآلاف السنين.
شواهد جنائزية تتحول إلى سلعة
التقارير السابقة التي نشرها مرصد “بقش” وثّقت بدورها مبيعات مشابهة في الولايات المتحدة وبريطانيا، بينها شواهد جنائزية من سبأ تعود لشخصيات تاريخية معروفة، منها “معد كرب” وابنته “غثم”، وقد بيعت بين 2003 و2008 دون أي تدخل رسمي يمني.
الأخطر أن بعض المزادات وصفت إحدى القطع الأنثوية على أنها ذكر، في تجاهل فاضح لنقوش المسند المحفورة عليها والتي تثبت جنس الشخصية بوضوح. هذا الخطأ لم يكن مجرد هفوة مهنية، بل مثال على الإهمال واللامبالاة التي تُعامل بها الأسواق الغربية التراث اليمني، حيث يُنظر إلى القطع الأثرية باعتبارها أصولاً مالية يمكن تسعيرها والتداول بها.
البعد الاقتصادي لهذه القضية يتجاوز الجانب الثقافي. سوق الفن والآثار القديمة تُقدّر قيمته بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً، والقطع اليمنية أصبحت جزءاً من هذا السوق العالمي، لكن خارج إطار الاقتصاد اليمني.
كل قطعة تباع في نيويورك أو باريس أو ميونيخ تعني خسارة مزدوجة: خسارة أثر لا يُقدّر بثمن من حيث قيمته التاريخية، وخسارة فرصة استثمارية وسياحية كان يمكن أن تسهم في تنمية الاقتصاد المحلي لو ظلت محفوظة في متحف وطني.
فجوة قانونية وفراغ رسمي
الغياب الرسمي يفاقم هذه الخسارة. فاليمن، بحسب تقارير الإنتربول، لم يسجّل سوى قطعة أثرية واحدة في قاعدة البيانات الدولية الخاصة بالقطع المسروقة، بينما تُباع مئات القطع سنوياً في المزادات الغربية.
هذا الفراغ القانوني يفتح الباب واسعاً أمام المزادات لتدرج هذه القطع على أنها “من أصل غير محدد” أو “من مجموعات خاصة”، ما يمنحها غطاءً قانونياً شكلياً يحوّلها إلى سلعة شرعية في الأسواق العالمية.
مصر واليونان: كيف تحوّل التراث إلى رافعة اقتصادية بمليارات الدولارات
الأبعاد الاقتصادية لذلك واضحة: حين تُفقد هذه القطع إلى الأبد من المتاحف اليمنية، يضيع معها أحد أهم روافد السياحة الثقافية. في دول مثل مصر واليونان، تُسهم المتاحف والمعالم الأثرية بما يقارب 10 إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي من خلال السياحة الثقافية. أما اليمن، فيُحرم من هذا المصدر رغم امتلاكه إرثاً أعمق وأندر في المنطقة. وهكذا تتحول الكنوز إلى عائدات خاصة لأفراد ومزادات، بينما يبقى البلد الذي أنجبها غارقاً في أزماته الاقتصادية.
في مصر يشكل التراث الأثري والسياحة المرتبطة به أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، فقد استقبلت البلاد نحو 15.7 مليون سائح في عام 2024، بزيادة عن 14.9 مليون في 2023، وحققت إيرادات تجاوزت 14.1 مليار دولار. ووفق بيانات المجلس العالمي للسفر والسياحة (WTTC)، فإن مساهمة قطاع السياحة المباشرة وغير المباشرة بلغت نحو 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يدعم القطاع أكثر من 2.7 مليون وظيفة مباشرة، مع توقعات بارتفاع العدد ليشكل حوالي 10% من إجمالي الوظائف بحلول 2035. المتاحف والمواقع الأثرية مثل الأهرامات ووادي الملوك تمثل نقاط الجذب الرئيسية التي تجعل مصر ضمن أهم خمس وجهات سياحية ثقافية في العالم.
أما في اليونان، فإن الاقتصاد يعتمد بشكل كبير على السياحة الثقافية والأثرية. تشير تقارير معهد التجارة السياحية اليوناني إلى أن مساهمة السياحة بلغت نحو 28.5 مليار يورو في عام 2023، أي ما يعادل ما بين 13% و30% من الناتج المحلي الإجمالي إذا أُخذت التأثيرات غير المباشرة في الاعتبار. المواقع التاريخية مثل الأكروبوليس ومعبد زيوس والأطلال القديمة في دلفي تجذب ملايين السياح سنوياً، حيث تجاوز عدد الزوار الدوليين 33 مليون سائح في 2023، وهو رقم يفوق عدد سكان البلاد بثلاثة أضعاف.
التجربة اليونانية توضح كيف يمكن للتراث أن يتحول إلى محرك اقتصادي ضخم؛ إذ تدر المواقع الأثرية عوائد مباشرة من تذاكر الدخول تقدّر بمئات الملايين من اليوروهات سنوياً، فضلاً عن عوائد غير مباشرة عبر الفنادق والمطاعم ووسائل النقل، وهو ما يعادل نحو ثلث الاقتصاد الوطني.
هذه الأرقام تكشف أن التراث ليس مجرد ماضٍ ثقافي، بل أصل اقتصادي حيّ قادر على إنعاش الاقتصاد الوطني ودعم ملايين الوظائف. وفي حال جرى استثمار الإرث اليمني وحمايته بدلاً من تسريبه إلى الخارج، يمكن أن يشكل أحد أهم أعمدة اقتصاد مستقبلي أكثر استدامة، شبيهاً بما تحقق في مصر واليونان.