بوتين: الدولار أداة ابتزاز سياسي.. ومنظمة شنغهاي مدعوة لبناء بدائل نقدية

الاقتصاد العالمي | بقش
أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام قادة منظمة شنغهاي للتعاون أن الاعتماد الأحادي على الدولار لم يعد مقبولاً، معتبراً أن العملة الأمريكية تحولت إلى “أداة ابتزاز سياسي” تستخدمها واشنطن ضد خصومها وحلفائها على حد سواء.
وأوضح بوتين أن التجارب الأخيرة أثبتت أن ربط النظام المالي العالمي بعملة واحدة جعل الاقتصاد الدولي أكثر هشاشة، إذ بات الدولار وسيلة لتقييد حركة الحكومات عبر العقوبات والرسوم الجمركية.
وخلال القمة التي عُقدت في مدينة تيانجين الصينية، مطلع الشهر الجاري، اقترح بوتين أن تبدأ دول المنظمة ببيع سندات مشتركة لتقوية التعاون الاقتصادي، إلى جانب تأسيس بنك للمشروعات الاستثمارية. كما دعا إلى إنشاء آلية مدفوعات وتسويات مالية مستقلة، تسمح للدول الأعضاء بإدارة تجارتها وتمويلها بعيداً عن “سلاح الدولار” وفق اطلاع بقش. وأضاف أن هذه الخطوات من شأنها تعزيز فاعلية التبادلات التجارية وحمايتها من الضغوط الخارجية، مشيراً إلى أن اقتصادات المنظمة حققت نمواً بمعدل 5% في 2024.
يأتي هذا التوجه الروسي في ظل العقوبات الغربية المتزايدة بعد الحرب في أوكرانيا عام 2022، والتي عطلت شبكات الدفع الدولية وأجبرت موسكو على البحث عن قنوات بديلة بعيداً عن الدولار واليورو.
وترى موسكو أن منظمة شنغهاي، التي تضم الصين والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى، قادرة على قيادة تحالف اقتصادي موازٍ يحد من النفوذ الأمريكي في الأسواق العالمية.
تراجع تدريجي في هيمنة الدولار
من جانب آخر، أظهرت بيانات صندوق النقد الدولي أن حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية تراجعت إلى 57.8% في الربع الأول من 2025 بعد أن كانت تتجاوز 70% مطلع الألفية. كما رصدت وكالة بلومبيرغ توجه أكثر من عشرين بنكاً مركزياً في دول نامية إلى زيادة حيازاتها من الذهب واليوان منذ عام 2022، في محاولة لتنويع أصولها وتقليل المخاطر المرتبطة بالعملة الأمريكية.
توسع العقوبات الأمريكية عزز أيضاً هذا الاتجاه؛ إذ تضاعف عدد الكيانات والأفراد المدرجين على القوائم السوداء التابعة لوزارة الخزانة أكثر من ثلاث مرات بين عامي 2000 و2023. وأظهر تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن العقوبات باتت تشمل قطاعات حيوية كالنقل والطاقة والتكنولوجيا، ما عزز قناعة الدول الصاعدة بضرورة إنشاء بدائل مالية تقلل من انكشافها أمام القرارات الأمريكية.
تجارب سابقة وآفاق التعددية النقدية
في تجارب عملية سابقة، تمكنت كينيا من تخفيف الضغط على الدولار عبر اتفاقيات نفطية طويلة الأجل مع أرامكو وأدنوك، ما وفر نحو 500 مليون دولار شهرياً حسب قراءة بقش، وساعد على تقليص التضخم في أسعار الوقود.
أما سريلانكا فقد اعتمدت الروبية الهندية لتسوية تجارتها مع نيودلهي منذ 2022، في حين لجأت بنما إلى إصدار سندات باليورو والفرنك السويسري لتقليل كلفة الاقتراض وسط ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، محققة وفورات تجاوزت 200 مليون دولار. وتدل هذه التجارب، بحسب خبراء، على أن التعددية النقدية بدأت تنتقل من فكرة إلى ممارسة، وإن لم تصل بعد إلى مرحلة كسر هيمنة الدولار.
يرى محللون أن اقتراح بوتين يتماشى مع مسار أوسع تتبناه دول بريكس لتعزيز التسويات بالعملات المحلية، وهو ما يشكل تحدياً طويل الأمد للنفوذ الغربي، لكنه يتطلب استثمارات ضخمة في البنية المالية وضمان ثقة الأسواق.
الصين، على سبيل المثال، عززت دور اليوان عبر اتفاقيات تبادل العملات مع أكثر من 40 دولة، لكنها لا تزال تواجه عوائق تتعلق بحرية حركة رأس المال وشفافية الأسواق.
في الوقت ذاته، يشير اقتصاديون إلى أن الانخفاض التدريجي لحصة الدولار في الاحتياطيات العالمية لا يعني انهياره، بل يعكس انتقالاً بطيئاً نحو تعددية نقدية. فالدولار ما زال يمثل أكثر من نصف الاحتياطيات العالمية، مدعوماً بعمق الأسواق الأمريكية والسيولة العالية وغياب بديل مؤسسي متكامل. وهذا ما دفع صندوق النقد الدولي إلى التحذير من أن تجزئة النظام المالي دون بدائل قوية قد تخلق اضطرابات أخطر من استمرار الاعتماد على الدولار.
كما تبرز في الشرق الأوسط تجارب لافتة؛ حيث تسعى بعض الدول إلى استخدام عملات بديلة في تجارة الطاقة. السعودية ناقشت مقترحات لتسعير جزء من صادراتها النفطية باليوان، فيما اختبرت الإمارات والهند تسوية صفقات نفطية بالروبية والدرهم. هذه الخطوات لا تزال محدودة، لكنها تعكس اتجاهات متنامية لإيجاد هوامش مناورة بعيداً عن العملة الأمريكية.
التحولات العالمية واحتمالات المستقبل
يتفق خبراء على أن التعددية النقدية لن تتحقق بين ليلة وضحاها، بل ستظل مساراً تدريجياً مرهوناً بقدرة الدول الصاعدة على بناء مؤسسات مالية قوية، وتعزيز الثقة في عملاتها الوطنية، وتقديم أدوات تحوط متطورة. وفي حين يتحدث بوتين عن “تحرر من الدولار”، يرى اقتصاديون أن الواقع هو إدارة محسوبة للتعرض للدولار لا استبداله بالكامل، وهو ما يضمن مرونة أكبر للدول في مواجهة الأزمات الجيوسياسية المقبلة.
ويشير تقرير صادر عن غولدمان ساكس اطلع عليه بقش إلى أن حصة الدولار قد تتراجع إلى حدود 50% من الاحتياطيات بحلول 2035 إذا استمرت الاتجاهات الحالية، لكن غياب عملة بديلة موثوقة سيبقيه “العملة المهيمنة”، وإن بدرجة أقل من السابق. هذا يعني أن المستقبل القريب سيشهد مرحلة “ازدواجية نقدية” أكثر من كونه تحولاً جذرياً، حيث يتقاسم الدولار المساحة مع عملات أخرى دون أن يفقد مكانته المركزية.
ويرى محللون أن الدول النامية ستكون الأكثر استفادة من هذا التحول الجزئي، إذ ستتمكن من تنويع أدواتها المالية وتقليل مخاطر التعرض لعقوبات مفاجئة أو تقلبات في أسعار الفائدة الأمريكية. غير أن نجاح هذه الخطوات يبقى مرهوناً بمدى استعداد تلك الدول لاستثمار مليارات الدولارات في البنية التحتية المالية والمؤسسية، بما يتيح الثقة في النظام الجديد ويمنع وقوعه في فوضى نقدية أوسع.