الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

فرنسا مهددة بالانهيار الاقتصادي.. تغيير 3 حكومات في سنة ونصف والبلد تغرق في الديون

الاقتصاد العالمي | بقش

تشهد فرنسا واحدة من أعقد الأزمات السياسية والاقتصادية في تاريخها الحديث، بعدما أطاح البرلمان برئيس الوزراء “فرانسوا بايرو” في تصويت حجب الثقة يوم 08 سبتمبر الجاري، لتدخل البلاد مرحلة جديدة من الاضطراب السياسي المترافق مع أزمة مالية خانقة.

بحسب اطلاع “بقش” على تقرير لوكالة رويترز، فإن هذه هي المرة الثالثة خلال أربعة عشر شهراً التي تُجبر فيها حكومة على الاستقالة في باريس، ما يعكس عمق المأزق السياسي الذي تعانيه السلطة التنفيذية ويضاعف من حالة عدم اليقين الاقتصادي.

الدين العام الفرنسي بلغ عند منتصف العام الجاري حوالي 3.345 تريليون يورو، أي ما يعادل نحو 114% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات المفوضية الأوروبية التي اطلع عليها “بقش”. هذا الرقم يضع فرنسا في مقدمة دول الاتحاد من حيث ارتفاع الدين، متجاوزة بذلك الحدود التي وضعتها معايير ماستريخت للاستقرار المالي. وفي ظل التباطؤ الاقتصادي، باتت كلفة خدمة الدين مرشحة لأن تصبح البند الأكبر في الموازنة الفرنسية بحلول عام 2029، ما يعني أن فاتورة الفوائد قد تلتهم ما يتجاوز مخصصات الصحة أو التعليم.

ترافق هذا الوضع المالي مع عجز في الموازنة بلغ نحو 5.8% من الناتج المحلي، وهو من أعلى مستويات العجز في منطقة اليورو. ووفق صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، فإن المستثمرين بدأوا يتعاملون مع فرنسا كما لو كانت جزءاً من “المحيط المالي” لأوروبا، لا من مركزها، إذ ارتفعت كلفة الاقتراض الفرنسي إلى مستوى تجاوز إيطاليا للمرة الأولى في تاريخ منطقة اليورو، وهو تطور يعكس قلقاً بالغاً في الأسواق المالية بشأن مستقبل ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد.

ثمن الاضطراب السياسي

الانهيار الحكومي المتكرر في باريس ليس مجرد أزمة سياسية، بل عامل مباشر في تفاقم المخاطر الاقتصادية. فشل البرلمان في تمرير خطط لخفض العجز بنحو 44 مليار يورو خلال السنوات الثلاث المقبلة، أدى إلى اهتزاز ثقة الأسواق، وزاد من الضغوط على وكالات التصنيف الائتماني لإعادة النظر في تصنيف فرنسا السيادي.

وتقول بلومبيرغ إن الفارق بين السندات الفرنسية ونظيرتها الألمانية قفز إلى 0.8 نقطة مئوية، وهو أعلى مستوى منذ إنشاء اليورو، ما يعكس ارتفاع تكلفة المخاطر التي يراها المستثمرون في التعامل مع الديون الفرنسية.

الرئيس إيمانويل ماكرون يجد نفسه اليوم أمام معضلة مزدوجة: ضرورة تهدئة الساحة السياسية بتعيين رئيس وزراء قادر على حشد أغلبية برلمانية، وفي الوقت نفسه إرسال إشارات جدية للأسواق بشأن التزام باريس بضبط المالية العامة.

لكن التحدي الأكبر يكمن في المزاج الشعبي الذي بات يميل بشكل متزايد نحو التيارات اليمينية والشعبوية، في ظل حالة الإحباط من سياسات التقشف وتراجع القدرة الشرائية. هذا ما يجعل أي محاولة لفرض إصلاحات مالية مؤلمة محفوفة بمخاطر انفجار اجتماعي جديد، على غرار احتجاجات “السترات الصفراء” التي هزت الشارع الفرنسي قبل أعوام.

من الناحية الاقتصادية البحتة، تشير توقعات المفوضية الأوروبية التي اطلع عليها “بقش” إلى أن النمو في فرنسا لن يتجاوز 0.6% في 2025، قبل أن يتحسن تدريجياً إلى 1.3% في 2026، وهو أداء متواضع للغاية بالنسبة لاقتصاد بهذا الحجم. العجز سيظل في حدود 5.6–5.7%، بينما يتوقع أن يتضخم الدين ليصل إلى 118% من الناتج المحلي بحلول 2026.

أوروبا على صفيح ساخن

الأزمة الفرنسية لا تنفصل عن المشهد الأوروبي الأشمل، إذ إن ثقل باريس داخل الاتحاد يجعل من أي اهتزاز سياسي أو مالي فيها عاملاً مهدداً لتوازن المنظومة بأكملها. وبحسب تقرير لموقع يورونيوز، فإن النفوذ الفرنسي في مؤسسات الاتحاد بدأ يتراجع، ما يفتح الباب أمام دول أخرى مثل إيطاليا وألمانيا لتحديد أجندة السياسات الأوروبية في المرحلة المقبلة. هذا التحول قد تكون له تبعات بعيدة المدى على ملفات حساسة مثل موازنات الاتحاد، سياسات الطاقة، وحتى مستقبل العملة الموحدة.

العديد من الدول الأوروبية الأخرى ليست بمنأى عن الأزمات. إيطاليا، رغم أنها استفادت من تراجع المقارنة مع فرنسا، ما تزال تعاني من دين عام يقترب من 145% من الناتج المحلي. ألمانيا، القوة الصناعية الكبرى، تواجه تباطؤاً اقتصادياً مستمراً مع دخولها مرحلة “ركود صناعي” بسبب أزمة الطاقة وتباطؤ الصادرات. أما إسبانيا والبرتغال، فقد لجأتا إلى فرض ضرائب استثنائية على أرباح بعض القطاعات (windfall taxes) كوسيلة لتعويض العجز المتزايد، في خطوة تعكس عمق القلق الأوروبي من تزايد الديون.

أوروبا إذن تواجه لحظة حرجة: كيف يمكنها الحفاظ على تماسكها المالي في ظل تباين أوضاع دولها؟ وبحسب تقرير في صحيفة فاينانشال تايمز، فإن وصف فرنسا بأنها “إيطاليا جديدة” أصبح دارجاً في الأوساط المالية، في إشارة إلى أن باريس باتت تمثل مصدر قلق لا يقل عن روما، بعدما كانت لسنوات تعتبر ركيزة استقرار الاتحاد.

بريطانيا بين التباطؤ والانقسام

على الضفة الأخرى من القناة الإنجليزية، تعيش المملكة المتحدة وضعاً اقتصادياً دقيقاً، وإن كان مختلفاً في طبيعته عن الأزمة الفرنسية. النمو في الربع الثاني من 2025 بلغ 0.3%، وهو أفضل من ركود متوقع، لكنه في الوقت نفسه أقل من الربع الأول.

وحسب تقرير لمكتب الإحصاء الوطني البريطاني اطلع عليه “بقش”، فإن هذا النمو جعل بريطانيا الأسرع بين دول مجموعة السبع في تلك الفترة، لكن استمرار تباطؤ الاستثمار والإنتاجية يجعل التوقعات المستقبلية محفوفة بالمخاطر.

الحكومة العمالية بقيادة كير ستارمر اتخذت خطوة لافتة بإنشاء “مجلس الميزانية” الجديد، الذي يضم شخصيات اقتصادية بارزة مثل بارونيسة شافيك وتورستن بيل، بهدف تنسيق السياسات المالية والتحضير لميزانية نوفمبر.

لكن بحسب صحيفة فاينانشال تايمز، فإن هذا المجلس أثار أيضاً جدلاً داخلياً، حيث اعتُبر محاولة لتقليص نفوذ وزيرة الخزانة ريتشيل ريفز. هذه التوترات السياسية تضيف بعداً من عدم اليقين في وقت تحتاج فيه الأسواق إلى رسائل واضحة حول مسار الاقتصاد البريطاني.

التحدي الأكبر يظل في سوق العمل. صحيفة ديلي تلغراف البريطانية كشفت أن المملكة المتحدة شهدت أسوأ تباطؤ في التوظيف مقارنة بأي دولة أوروبية أخرى في الأشهر الماضية، وهو ما يهدد بدخول الاقتصاد في حلقة انكماش جديدة إذا لم يُعالج سريعاً. كما أن الانقسام في ثقة المستهلكين بين الأجيال يعكس تعقيد المشهد: حيث انخفض مؤشر الثقة بين من هم فوق 65 عاماً إلى –38، بينما ارتفع بين الفئة الشابة (16–29 عاماً) إلى +13. هذا الانقسام السياسي والاجتماعي يجعل من الصعب صياغة سياسات اقتصادية تحقق توافقاً وطنياً.

التوقعات العالمية والمخاطر المشتركة

صندوق النقد الدولي يتوقع أن يحقق الاقتصاد البريطاني نمواً بنسبة 1.2% في 2025 و1.4% في 2026، مستفيداً من التيسير النقدي وزيادة الإنفاق العام. أما بالنسبة لفرنسا، فإن الصندوق لم يشر إلى حاجة عاجلة للتدخل، لكنه حذر من أن تراكم الديون وارتفاع كلفة الاقتراض قد يجعلان البلاد عرضة لصدمات خارجية، مثل أي أزمة مالية عالمية أو ارتفاع إضافي في أسعار الفائدة.

أوروبا عموماً تقف أمام تحديات مشتركة: الشيخوخة السكانية، ارتفاع تكاليف الطاقة بعد حرب أوكرانيا، وتباطؤ الإنتاجية. وإذا أضفنا إلى ذلك حالة الاستقطاب السياسي، فإن القارة تبدو اليوم في وضع هشّ، حيث يمكن لأي أزمة في دولة محورية مثل فرنسا أن تترك صدى واسعاً على بقية الاقتصادات.

وباطلاع “بقش” على تقرير في وكالة أسوشييتد برس، يظهر أن التحدي الأكبر أمام الحكومات الأوروبية ليس فقط معالجة الأرقام المالية، بل استعادة ثقة شعوبها في قدرة النخب السياسية على إدارة المرحلة.

الاحتجاجات الاجتماعية مرشحة للتوسع، لا سيما في فرنسا، حيث يشعر المواطن العادي أن فاتورة الإصلاحات تقع على كاهله بينما تغيب العدالة الضريبية والفرص الاقتصادية المتكافئة.

أوروبا عند مفترق طرق

من باريس إلى لندن، ومن بروكسل إلى برلين، تتكشف ملامح أزمة اقتصادية وسياسية ستحدد مسار العقد المقبل في القارة الأوروبية. فرنسا، بثقلها التاريخي والاقتصادي، تمثل الحلقة الأضعف حالياً، وقد يكون مصيرها إنذاراً مبكراً لما قد يواجهه الاتحاد الأوروبي إذا لم يُسرع في صياغة استجابة شاملة. بريطانيا، رغم خروجها من الاتحاد، ليست بمنأى عن التحديات، إذ أن هشاشة أسواق العمل وتراجع الثقة يجعلانها جزءاً من المشهد الأوروبي العام للأزمات.

الأسئلة المطروحة اليوم لم تعد مقتصرة على الأرقام الاقتصادية، بل تتعلق بقدرة هذه الدول على الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وضمان ألا يتحول الغضب الشعبي إلى موجات جديدة من الشعبوية قد تعصف بما تبقى من الثقة في الديمقراطيات الغربية.

وتفيد تقارير متطابقة من فاينانشال تايمز ورويترز، بأن ما يجري الآن قد يُعيد رسم خريطة النفوذ داخل أوروبا، وقد يجعل السنوات المقبلة أكثر اضطراباً من أي وقت مضى منذ أزمة الديون السيادية قبل أكثر من عقد.

في النهاية، يظل السؤال الكبير مطروحاً: هل تملك فرنسا وأوروبا وبريطانيا الإرادة والقدرة على قلب المعادلة، أم أن هذه الأزمات ستقود القارة العجوز إلى مرحلة جديدة من التراجع في مواجهة قوى اقتصادية صاعدة في آسيا وأمريكا؟ الجواب لم يتضح بعد، لكن المؤكد أن القارة الأوروبية تقف اليوم أمام أصعب اختبار منذ تأسيس الاتحاد.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش