خفض يخالف مطالب ترامب.. ما أبعاد قرار سعر الفائدة من بنك الاحتياطي الفيدرالي؟

الاقتصاد العالمي | بقش
أمس الأربعاء، 17 سبتمبر 2025، قرر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خفض سعر الفائدة الأساسي بمقدار 25 نقطة أساس، ليصبح النطاق المستهدف لسعر الفائدة الفدرالي بين 4.00 % و4.25 %، وهذا الخفض وفق متابعات بقش هو أول خفض يجريه البنك المركزي الأمريكي منذ ديسمبر 2024.
ولم يتماشَ القرار مع مطالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان يطالب بخفض أسعار الفائدة بشكل أكبر وأسرع من ذلك، بنسبة تصل إلى 1%، حيث رأى أن السياسة النقدية بحاجة إلى التيسير (أي خفض أكبر) لتحفيز النمو الاقتصادي والأسواق، خاصةً في ظل بحثه عن دعم اقتصادي في قطاعات مثل الإسكان. وهذه المطالب أبرزت نزاعاً بين إدارة ترامب والبنك المركزي الذي يتسم بالاستقلالية ويرفض التدخل في شؤونه وقراراته واستقلاليته من قِبل الإدارة الأمريكية.
هذا التباين بين مطالب الرئيس والقرار الفيدرالي يُظهِر التوازن الصعب الذي يواجهه البنك بين الضغط السياسي من جهة، وبين مسؤولياته المزدوجة المتمثلة في ضبط التضخم وتحقيق أقصى قدر من العمالة.
الأبعاد الاقتصادية للخفض الحذر
اتُّخذ قرار خفض الفائدة بشكل حذر، وسط تدهور مؤشرات سوق العمل، فهناك دلائل على ضعف في خلق الوظائف، وأيضاً مؤشرات بأن الأجور أو عدد ساعات العمل قد يتراجع، ما يُشكّل خطراً على معدلات البطالة المرتفعة.
وهناك التضخم المستمر الذي لا يزال مرتفعاً فوق الهدف (فوق 2%)، مما يجعل الفيدرالي حذراً من خفض معدلات الفائدة بسرعة كبيرة قد تؤجج التضخم. ووفق اطلاع بقش على أحدث بيانات التضخم، فقد ارتفع المعدل السنوي في الولايات المتحدة إلى 2.9% في أغسطس 2025، وهو الأعلى منذ يناير الماضي، بعد أن ظل عند 2.7% في كل من يونيو ويوليو.
وارتفعت الأسعار بوتيرة أسرع للأغذية (3.2% مقابل 2.9% في يوليو)، والسيارات المستعملة والشاحنات (6% مقابل 4.8%)، والمركبات الجديدة (0.7% مقابل 0.4%). كما زادت تكلفة الطاقة للمرة الأولى خلال سبعة أشهر (0.2% مقابل -1.6%)، وارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 0.4% وهو المعدل الأعلى منذ يناير.
كما جرى خفض الفائدة وسط مخاوف من تأثيرات السياسات التجارية والضرائب، فسياسات التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب والتوترات التجارية لها تأثير على تكلفة الواردات والتضخم والاستثمار، رغم أن ذلك يزيد من عدم اليقين ويحد من قدرة الفيدرالي على خفض الفائدة بسهولة.
ولا يرغب الفيدرالي في تكرار أخطاء الإفراط في التيسير التي قد تؤدي إلى فقاعات ائتمانية أو اختلالات في الأصول.
وأبرز القرار استقلالية مجلس الاحتياطي، أو محاولته لفرض استقلاليته أمام ضغوط ترامب، فمع أن الأخير مارس ضغطاً كبيراً وصل إلى المطالبة باستقالة رئيس الفيدرالي “جيروم باول”، وإقالة المحافظة “ليزا كوك”، إلا أن البنك اختار خفضاً معتدلاً، ورفض مقترح خفض أكبر قدمه عضو جديد مقرب من ترامب، وهو “ستيفن ميران”، الذي صوت لدعم خفض بمقدار 50 نقطة أساس لكنه خسر التصويت.
وقد أكد المركزي الأمريكي أن القرارات مُرتكزة على البيانات الاقتصادية، وليس المطالب السياسية.
وفي تحليلات “بقش”، يُتوقع أن يُساعد خفض الفائدة على تخفيض تكلفة الاقتراض، مما قد يدعم القروض الاستهلاكية، والإسكان، وربما الاستثمار العقاري، وقد يخفف بعضاً من الضغوط على سوق العمالة، لكن الأثر سيأخذ وقتاً، ولا يمكن الاعتماد فقط على السياسة النقدية لتدارك تراجع حاد في النشاط الاقتصادي.
وإن أي خفض للفائدة في بيئة بها تضخم مرتفع يُعرض الاقتصاد لاحتمالية أن يستمر التضخم أو يرتفع، لا سيما إذا استمرت السياسات التجارية التي ترفع تكاليف الواردات، ويشير الفيدرالي إلى أن التضخم ربما مرتفع في المدى القريب ولكنه يتوقع أن يتراجع بمرور الزمن.
وقد تستجيب الأسواق بشكل إيجابي مبدئياً من حيث حركة الأسهم، خاصةً القطاعات الحساسة للفائدة، لكن رد الفعل قد يكون مختلطاً إذا ظهرت مؤشرات بأن النمو سيتباطأ جداً أو أن التضخم سيظل عنيداً، وربما يتراجع سعر الدولار مؤقتاً إذا ظن المستثمرون أن السياسات الأمريكية ستكون أكثر مرونة من سياسات البنوك المركزية الأخرى.
وتجري توقعات بأن ضغط ترامب على الفيدرالي لن يتوقف، فقد يزيد من مساعي الإدارة الأمريكية لتعيين أعضاء أكثر توافقاً معها، أو تغيير الآليات القانونية المتعلقة باستقلالية البنك المركزي.
ماذا عن البنوك المركزية الأخرى؟
القرار الفيدرالي لم يكن معزولاً، فهناك عدة بنوك مركزية أو هيئات نقدية حول العالم قرّرت خفض أسعار الفائدة تماشياً مع القرار الأمريكي، وهناك بنوك لم تتماشَ معه، مثل بنك إنجلترا.
فقد أبقى بنك إنجلترا سعر الفائدة عند 4% وحافظ على نهجه الحذر حيال خفضها مستقبلاً، في ظل تزايد المخاوف من عودة التضخم إلى التسارع، ويؤكد البنك الإنجليزي أن بريطانيا لم تتجاوز مرحلة الخطر بعد، وأن أي خفض مستقبلي سيكون “تدريجياً وحذراً” و”مرتبطاً بمدى استمرار انحسار الضغوط التضخمية الكامنة”.
وأضاف أن “المخاطر الصعودية على ضغوط التضخم على المدى المتوسط ما تزال واضحة في تقييم اللجنة”، وقال البيان المرافق للقرار، الذي اطلع عليه بقش، إن تراجع ضغوط الأجور كان أوضح من تراجع الأسعار، لكنه لفت إلى أن الارتفاع الأخير في التضخم قد يزيد الضغوط على الجانبين معاً.
وفاجأ بنك إندونيسيا الأسواق بتخفيض سعر الفائدة المرجعي بمقدار 25 نقطة أساس ليصل إلى 4.75% في سبتمبر 2025، ويُعد هذا التخفيض هو الثالث على التوالي، ما يشير إلى تحول في السياسة النقدية للبنك من تشديدها إلى تسهيلها. ويتحدى هذا القرار التوقعات السائدة في السوق التي كانت تُشير إلى أن البنك الإندونيسي سيُبقي أسعار الفائدة ثابتة عند 5.0%.
ومن جانبها خفضت البنوك المركزية في منطقة الخليج أسعار الفائدة الرئيسية عقب قرار الخفض الأمريكي، وذلك بخفض الفائدة ربع نقطة مئوية للمرة الأولى هذا العام.
وتحذو الدول المصدرة للنفط والغاز في الخليج عموماً حذو مجلس الاحتياطي الفيدرالي في تحركات أسعار الفائدة، حيث تربط معظم دول الخليج عملاتها بالدولار.
وخفضت السعودية، أكبر اقتصاد في المنطقة، سعر الفائدة على اتفاقيات إعادة الشراء (الريبو) بمقدار 25 نقطة أساس إلى 4.75%، وسعر إعادة الشراء العكسي ربع نقطة مئوية أيضاً إلى 4.25%.
وقلص البنك المركزي الإماراتي سعر الفائدة الأساسي المطبق على تسهيلات الودائع لليلة واحدة 25 نقطة أساس إلى 4.15% من 4.40% اعتباراً من اليوم الخميس.
وخفض مصرف قطر المركزي سعر الفائدة على الودائع 25 نقطة أساس إلى 4.35%، وسعر فائدة الإقراض ربع نقطة مئوية أيضاً إلى 4.85%، وسعر إعادة الشراء 25 نقطة أساس إلى 4.60%. وفي البحرين، خفض المصرف المركزي كذلك سعر الفائدة على الودائع لليلة واحدة 25 نقطة أساس إلى 4.75% من 5%، اعتباراً من اليوم الخميس.
وقلصت الكويت سعر الخصم 25 نقطة أساس من 4% إلى 3.75%، وخفضت سلطنة عمان أيضاً سعر إعادة الشراء 25 نقطة أساس إلى 4.75%.
وأظهر استطلاع أجرته رويترز واطلع عليه بقش في يوليو الماضي أن زيادة إنتاج النفط وجهود التنويع ستساعد معظم اقتصادات الخليج على النمو هذا العام بوتيرة أسرع من 2024.
بالنتيجة، يُمثّل خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي لسعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس خطوةً حذرة تُوازن بين الحاجة إلى دعم الاقتصاد المهدد بتباطؤ في النمو وبين الخوف من إشعال موجة تضخمية جديدة.
ورغم أن القرار لم يلبِّ طموحات الرئيس ترامب الذي يضغط من أجل خفض أكبر، إلا أنه يعكس استقلالية السياسة النقدية وحرصها على الالتزام بالبيانات لا بالسياسة، وقد بدت الأبعاد العالمية للقرار واضحة مع تحرك البنوك المركزية، ما يعزز فكرة أن أي تحوّل في واشنطن سرعان ما يُحدث صدىً مالياً في أسواق العالم، غير أن المستقبل سيظل مرهوناً بمدى قدرة الفيدرالي على مواصلة الخفض دون فقدان السيطرة على التضخم.