
الاقتصاد العالمي | بقش
في خطوة تعتبر تحولاً كبيراً في المشهد الجيوسياسي والاقتصادي المرتبط بالملف النووي الإيراني، أعاد مجلس الأمن الدولي تفعيل آلية “السناب-باك” التي تؤدي تلقائياً إلى عودة العقوبات الأممية على إيران، بعد فشل مشروع قرار روسي-صيني لتأجيل هذه الخطوة.
وبموجب هذا التطور، تدخل إيران مرحلة جديدة من العزلة الاقتصادية والدبلوماسية، تشبه إلى حد بعيد الوضع الذي كانت عليه قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015.
وبحسب ما رصده “بقش” من تقارير وكالات أنباء دولية، فإن إعادة العقوبات تأتي بعد أن رفض مجلس الأمن، بأغلبية واضحة، مشروعاً قدمته موسكو وبكين لتأجيل إعادة فرض العقوبات، حيث صوّت أربعة أعضاء فقط لصالح المشروع مقابل تسعة معارضين وامتناع عضوين عن التصويت. وبانقضاء المهلة القانونية، تدخل العقوبات حيز التنفيذ تلقائياً وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2231.
هذه العودة للعقوبات الأممية تمثل نقطة تحول مفصلية، ليس فقط في علاقة إيران بالمجتمع الدولي، بل في بنية اقتصادها الداخلي وشبكة تجارتها الإقليمية والدولية، التي كانت قد تكيفت خلال السنوات الماضية على بيئة أقل صرامة رغم استمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية بشكل منفصل.
خلفية القرار وآليته القانونية
آلية “السناب-باك” منصوص عليها في القرار 2231 الذي تبنى الاتفاق النووي مع إيران في 2015. وتنص على أنه في حال إخطار أي طرف مشارك في الاتفاق بوجود “خلل جوهري في التزامات إيران”، فإن مجلس الأمن يمنح مهلة 30 يوماً للتصويت على قرار يمدد رفع العقوبات. وإذا فشل القرار — كما حدث الآن — تُعاد تلقائياً كل العقوبات التي كانت مفروضة قبل الاتفاق، دون إمكانية استخدام حق النقض لإيقافها.
وحسب اطلاع “بقش” على تقارير وكالة أسوشيتد برس، فإن مشروع القرار الروسي-الصيني كان محاولة أخيرة لتأجيل هذه العودة، لكن الدول الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) والولايات المتحدة تمسكت بالمضي قدماً في إعادة العقوبات، معتبرة أن إيران انتهكت التزاماتها النووية مراراً خلال السنوات الماضية.
القرار يدخل حيز التنفيذ مساء اليوم الموافق 27 سبتمبر، وهو ما يعني أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة قانونياً بإعادة تطبيق الحزم الكاملة من العقوبات، بما في ذلك القيود المتعلقة بالتسلح، والبرامج النووية والصاروخية، والمعاملات المالية، وتجميد الأصول، وقيود السفر على الأفراد والكيانات المدرجة.
تفاصيل العقوبات التي ستُعاد
تشمل العقوبات التي ستُعاد حظراً شاملاً على بيع أو نقل الأسلحة التقليدية إلى إيران، وكذلك تصدير الأسلحة منها، وهو ما كانت طهران قد استفادت من رفعه في السنوات الأخيرة لتعزيز صادراتها من الطائرات المسيّرة وبعض الأنظمة العسكرية لحلفائها في المنطقة. كما ستُعاد القيود على المواد والمعدات النووية الحساسة، وأي تكنولوجيا أو دعم تقني يمكن أن يسهم في تخصيب اليورانيوم أو تطوير قدرات إعادة المعالجة.
ووفق متابعة بقش تقارير وكالة رويترز، فإن العقوبات ستعيد تفعيل نظام تجميد الأصول وحظر السفر على المسؤولين والكيانات الإيرانية المدرجة على لوائح الأمم المتحدة، إلى جانب تفويض الدول الأعضاء بتفتيش الشحنات المشتبه في أنها تحمل مواد محظورة من أو إلى إيران. كما تشمل الإجراءات تقييد الاستثمارات في القطاعات المرتبطة بالطاقة والتكنولوجيا النووية والبنى التحتية الحساسة.
الآثار الاقتصادية الداخلية: ضغط متجدد على العملة والقطاعات الحيوية
عودة العقوبات ستؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الإيراني الداخلي الذي يعاني أصلاً من ضغوط تضخمية ونقص في العملات الصعبة. خلال السنوات الماضية، اعتمدت الحكومة الإيرانية على الالتفاف عبر القنوات غير الرسمية، وبيع النفط بطرق غير تقليدية للصين وبعض الأطراف الأخرى. لكن عودة العقوبات الأممية تعني تشديداً دولياً أوسع يشمل شركات النقل والتأمين والمصارف الوسيطة، ما سيجعل عمليات البيع والتمويل أكثر صعوبة وكلفة.
وبحسب متابعة بقش لتقرير حديث صادر عن واشنطن بوست، فإن العقوبات ستعيد القيود على الصفقات النفطية التي كانت تتم عبر أطراف ثالثة، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع عائدات إيران النفطية بشكل ملحوظ، خصوصاً في ظل تباطؤ الطلب الصيني وحرص البنوك الآسيوية على تجنب المخاطر القانونية.
هذه التطورات ستضغط على احتياطيات البنك المركزي الإيراني من العملات الأجنبية، وستضعف قدرة الحكومة على تمويل الدعم والإنفاق العام.
القطاعات الصناعية والبتروكيماوية، التي تمثل أحد أعمدة الاقتصاد الإيراني، ستتأثر هي الأخرى من خلال صعوبة استيراد المعدات وقطع الغيار، إضافة إلى احتمال انسحاب بعض الشركات المتوسطة التي كانت تعمل في مناطق رمادية قانونياً خلال السنوات الأخيرة. كما ستتأثر العملة الإيرانية التي تشهد تراجعاً مستمراً أمام الدولار، وهو ما سينعكس مباشرة على الأسعار المحلية ومعدلات التضخم.
الانعكاسات الإقليمية والدولية: التجارة في مهب الريح
اقتصادياً، لا تقتصر آثار “السناب-باك” على الداخل الإيراني فقط، بل تمتد إلى شركائها التجاريين في آسيا وأوروبا والمنطقة. فعودة العقوبات الأممية تخلق بيئة قانونية موحدة تلزم جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهو ما يزيد صعوبة التهرب من القيود كما كان يحدث في ظل العقوبات الأمريكية فقط.
قناة France24 قالت إن صادرات الطائرات المسيّرة الإيرانية إلى روسيا لاستخدامها في الحرب بأوكرانيا ستكون ضمن أكثر الملفات حساسية، إذ ستخضع مجدداً لحظر دولي صارم. كما أن دولاً مثل الصين والهند وتركيا، التي حافظت على مستوى معين من التجارة مع إيران، ستضطر إلى إعادة تقييم علاقاتها لتفادي المخاطر القانونية والمالية المرتبطة بالعقوبات الأممية.
إقليمياً، من المتوقع أن تعيد عودة العقوبات رسم خريطة التجارة غير الرسمية التي كانت تنشط عبر موانئ الإمارات والعراق وعُمان وتركيا، إذ سيزيد التدقيق على حركة السلع والخدمات المرتبطة بإيران، وهذا قد يؤثر على بعض شركات الشحن والنقل الإقليمية، ويضعف تدفقات السلع الإيرانية في الأسواق المجاورة.
الرد الإيراني: تصعيد دبلوماسي وتهديدات بالانسحاب من التعاون النووي
إيران لم تتأخر في الرد، فقد استدعت وزارة الخارجية الإيرانية سفراء فرنسا وبريطانيا وألمانيا احتجاجاً على ما وصفته بالخطوة العدائية، كما وصف الرئيس الإيراني العقوبات بأنها “غير عادلة وظالمة وغير قانونية”.
وبحسب رويترز، هددت طهران بوقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في إشارة إلى إمكانية الحد من عمليات التفتيش أو تسريع أنشطتها النووية كرد فعل.
كما تشير التقديرات إلى أن إيران قد تلجأ إلى مزيد من تعزيز اقتصاد الظل، عبر تكثيف استخدام الوسطاء في آسيا وإفريقيا، والاعتماد على العملات البديلة في تجارتها مع بعض الحلفاء، مثل الروبل الروسي واليوان الصيني، إضافة إلى محاولة توسيع شبكات تهريب النفط التي طورتها خلال السنوات الماضية.
لكن هذه الأدوات التي اعتمدت عليها إيران في مواجهة العقوبات الأمريكية قد لا تكون بنفس الفعالية في مواجهة حزمة أممية ملزمة، تشمل كل الدول الأعضاء وتفرض قيوداً على التأمين والشحن والمصارف، ما قد يحد من قدرتها على المناورة.
الاقتصاد الإيراني أظهر خلال السنوات الماضية قدرة نسبية على التكيف مع بيئة العقوبات من خلال تنويع قنوات التهريب والاعتماد على الحلفاء السياسيين، لكنه ظل يعاني من اختناقات مزمنة في التمويل والاستثمار والتكنولوجيا.
عودة العقوبات الأممية ستعمق هذه الاختناقات، وتحد من قدرة الحكومة على تحقيق نمو مستدام أو تحسين مستوى المعيشة الداخلي.
كما أن السياق الدولي الحالي مختلف عن فترة ما قبل 2015. الأسواق النفطية أقل استقراراً، والتوترات الجيوسياسية في البحر الأحمر وأوكرانيا وآسيا تجعل أي تعامل مع إيران محفوفاً بمخاطر أكبر.
في الوقت ذاته، قد تدفع هذه الضغوط إيران إلى مزيد من التقارب مع روسيا والصين، ومحاولة بناء تكتلات اقتصادية بديلة، لكنها ستظل محدودة التأثير أمام شبكة العقوبات الأممية الواسعة.
ختاماً، تشير المعطيات التي رصدها بقش إلى أن عودة العقوبات لن تكون مجرد خطوة رمزية، بل بداية مرحلة جديدة من الضغط الاقتصادي الدولي المنظم على إيران. وستكون الأسابيع المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كانت طهران ستختار مسار التصعيد الكامل أو محاولة التفاوض على تخفيف تدريجي مقابل تنازلات نووية.