
تقارير | بقش
تعيش العملة الأوروبية مرحلة دقيقة من تاريخها الحديث، مع تزايد الضغوط السياسية والاقتصادية التي تعصف بالأسواق في وقت واحد. فقد هبط اليورو إلى ما دون 1.17 دولار للمرة الأولى منذ أسابيع، مسجلاً تراجعاً لليوم الثاني على التوالي، مع اتجاه المستثمرين إلى تقليص مراكزهم الصعودية وإعادة التموضع في ظل حالة عدم اليقين المتصاعدة.
هذا الانعطاف السريع في مسار العملة الأوروبية لم يكن نتاج عامل اقتصادي صرف، بل جاء مدفوعاً في الأساس بتطورات سياسية داخلية غير مسبوقة في فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو.
ففي خطوة فاجأت الأسواق، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو استقالته، ما فجّر أزمة سياسية جديدة في باريس انعكست فوراً على منحنيات التداول وأسعار الخيارات في أسواق العملات العالمية.
صدمة سياسية في باريس… وانعكاس فوري على الأسواق
شكّلت استقالة لوكورنو صدمة للمستثمرين وصنّاع القرار الأوروبيين على حد سواء. هذه الخطوة غير المتوقعة أعادت إلى الواجهة مخاطر الاستقرار السياسي في قلب الاتحاد الأوروبي، في وقت كانت الأسواق تراهن فيه على عودة تدريجية للثقة عقب شهور من التوترات الاقتصادية.
البيانات الأولية من مؤسسات المقاصة العالمية مثل Depository Trust & Clearing Corporation (DTCC) أظهرت قفزة في حجم الرهانات الهبوطية على اليورو إلى أعلى مستوى لها منذ شهر، بالتوازي مع تحوّل مؤشرات الخيارات من الاتجاه الصعودي إلى السلبي، وهو ما يعكس تبدّل المزاج العام للمستثمرين بسرعة غير معهودة.
اللافت أن هذه التحركات لم تأتِ بعد فترة ضعف مستمرة، بل بعد مرحلة قصيرة من التفاؤل بدعم توقعات التباطؤ الأمريكي، وهو ما زاد من حدة الصدمة وأبرز هشاشة الثقة في العملة الأوروبية أمام أي اضطراب سياسي داخلي.
تزامنت الأزمة الفرنسية مع إغلاق الحكومة الأمريكية، الأمر الذي قلّص من حجم المحفزات الآتية من الجانب الأمريكي وأفسح المجال أمام التطورات الأوروبية لتقود حركة الأسواق.
هذه المفارقة الزمنية جعلت من الأزمة الفرنسية عاملًا محددًا لاتجاه اليورو، في لحظة كان من الممكن أن تبقى فيها الأخبار الأوروبية في العادة في المرتبة الثانية خلف السياسة النقدية الفدرالية.
المقارنة مع أزمة سبتمبر الماضي توضح الفارق: حينها، وعندما خسر رئيس الوزراء الأسبق فرانسوا بايرو تصويت الثقة، ارتفع اليورو بنسبة 0.4% في نفس اليوم بدعم من زخم أمريكي موازٍ، بينما الآن نرى العكس تمامًا — إذ هبطت العملة الأوروبية وسط فراغ نسبي في المشهد الأمريكي.
هذا التغير في التوازن بين العاملين الأوروبي والأمريكي دفع المستثمرين إلى إعادة هيكلة مراكزهم، فتراجعت الحصة الاسمية للرهانات الصعودية من 60% إلى أقل من 55% خلال أربعة أسابيع متتالية، ما يعكس تباطؤًا تدريجيًا في الزخم الداعم لليورو.
إشارات الأسواق: منطقة مقاومة حرجة وزخم متراجع
على صعيد التحليل الفني، يقف اليورو حاليًا أمام منطقة مقاومة تاريخية، فيما تشير المؤشرات قصيرة الأجل بوضوح إلى ميل هبوطي. وعلى الرغم من أن بعض عقود الخيارات بعيدة الأجل لا تزال تميل للاتجاه الصاعد، فإن الفارق السعري بينها وبين العقود الهبوطية هو الأدنى منذ أغسطس الماضي، وهو ما يضعف أي رواية تفاؤلية مستمرة.
يرى محللو بلومبرغ أن هذا الوضع يعكس خللًا في السرد السائد لدى المستثمرين: إذ لطالما رُوّج لفكرة أن تباطؤ النمو الأمريكي سيفتح المجال أمام صعود أوروبي جديد، لكن هذه الفرضية تتجاهل أن ضعف الاقتصاد الأمريكي غالباً ما يمتد إلى أوروبا لا أن يعزلها.
هذا يعني أن اليورو لن يكون محصناً من تباطؤ الاقتصاد العالمي، بل سيتأثر به وربما بشكل مضاعف مع غياب الاستقرار السياسي الداخلي.
النتيجة المباشرة هي تحوّل المستثمرين نحو مراكز دفاعية، وزيادة الطلب على عقود البيع، وانعكاس سريع في المزاج العام من الحذر إلى السلبية.
آفاق العملة الأوروبية: السياسة تقود المشهد
تتفق معظم التقديرات الحالية على أن مستقبل اليورو في المدى القريب لن تحدده المؤشرات الاقتصادية وحدها، بل سيحسمه المسار السياسي في باريس.
أي تأخير في تشكيل حكومة جديدة أو تعمق الانقسامات السياسية قد يؤدي إلى تسارع في الهبوط، خاصة إذا ترافق مع استمرار إغلاق الحكومة الأمريكية أو صدور بيانات اقتصادية أوروبية ضعيفة.
في المقابل، فإن تسوية سياسية سريعة داخل فرنسا يمكن أن تهدئ الأسواق مؤقتاً، لكنها لن تغيّر الواقع الأعمق المتمثل في ضعف الأساسيات الاقتصادية الأوروبية وتراجع الثقة الهيكلية في العملة الموحدة.
وبين هذين المسارين، يبدو أن اليورو مقبل على مرحلة تقلبات حادة وقرارات استثمارية سريعة، حيث تتحول السياسة — وليس الاقتصاد وحده — إلى العامل المرجّح لاتجاه الأسواق.