مقترح لتجميد 33 تريليون دولار من ديون الدول النامية… إنقاذ إنساني أم تحصين لوول ستريت؟

الاقتصاد العالمي | بقش
في خطوة غير مسبوقة من كبرى المؤسسات المالية في نيويورك، طرح كبار حاملي السندات في الأسواق الناشئة مقترحاً يقضي بمنح الدول النامية مهلة مؤقتة لتعليق سداد الفوائد على ديونها في حال وقوع كوارث كبرى، من الأوبئة إلى الحروب والكوارث الطبيعية.
يبدو المقترح، في ظاهره، بادرة إنسانية من وول ستريت تجاه الدول الفقيرة، فهو يمنح الحكومات فسحة زمنية لتجنّب الانهيار الاقتصادي وقت الأزمات. لكن في جوهره، يُعد آلية مالية ذكية لحماية النظام الاستثماري العالمي من الخسائر المترتبة على التعثر، وتحويل الكارثة من خطر إفلاس إلى فرصة لإعادة ترتيب الديون دون شطب أو خسارة مباشرة.
فالمؤسسات التي تقف خلف المقترح، من صناديق استثمار عملاقة إلى بنوك ومديري محافظ، تملك سندات تزيد قيمتها على 33 تريليون دولار في أسواق الدول النامية وفق اطلاع مرصد “بقش”. وأي انهيار في القدرة على السداد قد يعني تسلسل الانهيارات عبر محافظها الاستثمارية حول العالم، ما يهدد استقرار النظام المالي الدولي نفسه.
“إنقاذ الدول الفقيرة”… أم إنقاذ وول ستريت؟
من حيث الشكل، يقدم المقترح مخرجاً إنسانياً للدول النامية التي تواجه صدمات اقتصادية أو كوارث طبيعية، إذ يُسمح لها بتعليق سداد الفوائد لمدة تصل إلى عام واحد.
لكن من حيث الجوهر، فإن الدين لا يُلغى ولا يُخفَّض، بل يُعاد جدولته ليُضاف إلى أصل الدين مع استمرار احتساب الفائدة عليه، أي أن رأس المال يبقى آمناً، فقط مؤجلاً لا مفقوداً.
بهذا الأسلوب، تتحول الأزمات من “تهديد للديون” إلى “استثمار طويل الأجل مضمون قانونياً”، حيث لا يضطر المستثمرون إلى الاعتراف بخسائر أو شطب أصول. أما الدول النامية، فتخرج من الأزمة محمّلة بدين أكبر، لكنها تتجنب الإفلاس الفوري، ما يمنح الدائنين استقراراً هيكلياً في محافظهم دون التضحية بعوائدهم المستقبلية.
ويرى محللون تابع بقش تقديراتهم، أن هذه الصيغة تمثل تحولاً في عقل وول ستريت من جني الأرباح السريعة إلى حماية رأس المال طويل الأمد، خصوصاً في عالم تزداد فيه الكوارث المناخية والاضطرابات الجيوسياسية.
خلفية المقترح: خوف من “أزمة دومينو” مالية
تأتي المبادرة في لحظة حرجة. فبعد سنوات من التشديد النقدي وارتفاع أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة، وصلت كلفة خدمة الدين الخارجي للدول النامية إلى مستويات غير مسبوقة.
وفي بعض الحالات، باتت مدفوعات الفوائد تستهلك أكثر من ثلث ميزانيات الحكومات، ما يهدد بانهيار اجتماعي واقتصادي متسلسل شبيه بما حدث في أزمة أمريكا اللاتينية في الثمانينيات.
وتخشى المؤسسات المالية من أن يؤدي تعثر دولة كبيرة واحدة إلى تأثير دومينو يعصف بمحافظ السندات في الأسواق العالمية حسب قراءة بقش. فهذه المحافظ مترابطة عبر أدوات مشتقة وتغطيات تأمينية معقدة، ما يجعل أي خسارة صغيرة قابلة للتحول إلى أزمة نظامية عالمية.
من هنا، يصبح تأجيل السداد عاماً واحداً أرخص كثيراً من مواجهة انهيار شامل في قيمة الأصول. إنها “استراحة مالية محسوبة” تشتري بها وول ستريت الوقت لتجنب صدمة أكبر.
في المقابل، لا يأتي هذا الكرم المالي مجاناً. فالمقترح يُلزم الدول النامية التي تطلب التعليق بتحسين شفافيتها المالية وإتاحة بيانات تفصيلية عن ديونها بشكل ربع سنوي، وعقد اجتماعات مباشرة مع كبار الدائنين.
بهذا، يتحول البند الإنساني إلى أداة رقابة مالية غير مباشرة تمنح المستثمرين قدرة أكبر على تتبع السياسات الاقتصادية الداخلية للدول المقترضة. وتشير النسخة الموسعة من المقترح إلى أنه يجب أن يشارك في آلية التأجيل ما لا يقل عن 60% من الدائنين التجاريين والرسميين، لضمان استخدام الأموال المحررة لدعم الاقتصاد، لا لسداد التزامات أخرى.
بمعنى آخر، “الرحمة المالية” مشروطة بمزيد من الانكشاف المالي والسيادي، ما يجعل العلاقة بين المقترض والمستثمر أكثر اختلالاً رغم مظهرها التعاوني.
تجارب سابقة في الكاريبي… ونتائج مطمئنة لوول ستريت
لم يأت المقترح من فراغ. فدول مثل غرينادا وبربادوس جربت هذه الآلية في السنوات الأخيرة.
بعد إعصار “بيريل” عام 2024، فعّلت غرينادا بند التعليق دون أن تتراجع سنداتها في الأسواق، ما أثبت أن تجميد الفائدة لا يعني تراجع الثقة.
أما بربادوس، فكانت أكثر جرأة عندما أدرجت البند في إصدارها الأولي منتصف 2025، وجذبت طلبات اكتتاب تجاوزت حجم الطرح بخمسة أضعاف.
هذه التجارب الصغيرة أعطت وول ستريت دليلاً عملياً على أن السوق يمكن أن يتقبل فكرة المرونة دون فوضى. ومن هنا، بدأت المؤسسات المالية الكبرى تفكر في تعميم النموذج عالمياً، لا بدافع الإيثار، بل لأن الوقاية من خسارة واحدة كبيرة أهم من تحقيق أرباح قصيرة الأجل.
من جانبه، عبّر صندوق النقد الدولي عن تأييد مبدئي للمقترح بوصفه وسيلة لتقليل حالات التعثر وتخفيف الضغط على الدول المثقلة بالديون. لكن خبراء الصندوق حذروا في تصريحات تابعها بقش من أن إطالة عمر الدين عبر التأجيل المتكرر قد تجعل بعض الاقتصادات النامية رهينة دائمة للتمويل الخارجي، ما يعني تأجيل الانفجار لا منعه.
وتشير بيانات الصندوق إلى أن متوسط مدة إعادة هيكلة الديون ارتفع من 1.1 سنة إلى 2.5 سنة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، بسبب ضعف الشفافية وتعقيد المفاوضات بين الدائنين والمقترضين.
لذلك، فإن المقترح الحالي – رغم مرونته – قد يرسخ نظاماً دائماً من “الديون المجمّدة” التي لا تموت ولا تُسدَّد بالكامل، بل تبقى أداة لضمان استمرار تدفق العوائد نحو المراكز المالية الكبرى.
قراءة أعمق: رأس المال لا يخسر… فقط يؤجل
يقدّم المقترح الجديد درساً في الواقعية المالية. فهو لا يسعى إلى إصلاح النظام العالمي بقدر ما يعمل على تحصين مصالحه من الانهيار.
ففي عالم مترابط عبر صناديق التحوط والسندات السيادية، فإن موت دولة صغيرة مالياً يعني نزيفاً في النظام كله. لذلك، تمنح وول ستريت الدول النامية “حق التنفس”، لا بدافع الرحمة، بل بدافع الحفاظ على انتظام الدورة الدموية لرأس المال.
الرسالة الضمنية واضحة: “نسمح لكم بالتأجيل، بشرط أن تبقوا في اللعبة”. أي أن المقترح لا يعيد توزيع القوة المالية، بل يعيد هندستها لتبدو أكثر إنسانية من الخارج وأكثر إحكاماً في الداخل. وهو ما يجعل هذا التطور الجديد نموذجاً معاصراً للرأسمالية الوقائية: نظام يدرّ الأرباح حتى في زمن الكوارث، ويحوّل المخاطر إلى فرص.
منح مهلة للدول المنهكة لا يعني تخفيف ديونها، بل إعادة تأمينها لصالح الدائنين. إنه مقترح يبدو رحيماً في خطابه، لكنه في حقيقته صفقة إدارة أزمات بآليات الربح المؤجل، حيث يربح الجميع شيئاً، الدول تتنفس، والمستثمرون يحمون أصولهم، والنظام المالي العالمي يتفادى الانفجار. لكن الثمن الحقيقي يظل غير معلن: مزيد من التبعية المالية للدول النامية، ومزيد من السيطرة للمراكز المالية على سياسات الاقتصادات الفقيرة.