مصير الأمن الغذائي في اليمن بين تذبذب العملة وتراجع الأسعار المؤقت: قراءة في “نشرة السوق والتجارة – سبتمبر 2025”

الاقتصاد اليمني | بقش
تعيش الأسواق اليمنية مفارقة مركّبة: مؤشرات سعرية تهدأ في المدى القصير، مقابل أساسيات اقتصادية هشة تُبقي المخاطر مرتفعة على معيشة ملايين الأسر. فبعد موجة ارتفاعات حادة خلال العامين الماضيين، سجّل سعر صرف الريال اليمني في مناطق حكومة عدن تحسّناً لافتاً منذ أغسطس واستقراراً نسبياً في سبتمبر عند متوسط 1,616 ريالاً للدولار، فيما حافظ على ثباته في مناطق صنعاء عند 534 ريالاً للدولار.
هذا التحسّن السريع مدفوع بضوابط وتنظيمات جديدة من البنك المركزي بعدن حدّت من الطلب على النقد الأجنبي، لكنه يظل مكسباً هشاً ما لم يترافق مع إصلاحات تعالج جذور الاختلالات في الميزان التجاري وشحّ العملات الأجنبية، وفقاً لاطلاع بقش على “نشرة السوق والتجارة لسبتمبر 2025”، الصادرة عن منظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).
على المستوى السعري، أفادت النشرة التي طالعها بقش بتراجع إضافي – وإن كان محدوداً – في أسعار السلع الأساسية بمناطق عدن خلال سبتمبر، واستقرارها العام في مناطق صنعاء بفعل رقابة الأسعار. وانعكس ذلك على تكلفة “سلة الحد الأدنى من الغذاء” التي انخفضت في عدن نحو 14% على أساس سنوي، بينما ظلت مستقرة في مناطق صنعاء وإن كانت دون متوسط ثلاثة أعوام ماضية.
إلا أن هذا الهدوء لا يحجب مخاطر تضخمية قائمة، إذ تتربص الأسواق لأي ارتداد في سعر الصرف أو اضطراب في الإمدادات، خاصة مع استمرار القيود على الموانئ الشمالية وتذبذب تدفقات الوقود والحبوب.
وتُظهر النظرة حتى فبراير 2026 أن المشهد الإنساني سيبقى بالغ القسوة: الغذاء متوافر في الأسواق إجمالاً، لكن القدرة على الوصول إليه تتآكل بفعل ضعف الدخول وارتفاع المخاطر. وتقدّر التحليلات الأخيرة التي تتبَّعها بقش أن أكثر من 18 مليون شخص سيبقون في انعدام أمن غذائي شديد، ما يفرض مراقبة لصيقة لمحركات الأمن الغذائي: الأسعار، القرارات الحكومية، عمل الموانئ، المواسم الزراعية، شحّ الوقود، مسارات النزاع، وتعقيدات الإقليم.
سعر الصرف.. مكاسب سريعة تحت اختبار الاستدامة
حقّق الريال اليمني مكسباً نوعياً في مناطق عدن خلال أغسطس واستقر نسبياً في سبتمبر، مع تقدير سنوي بتحسّن 17% مقارنة بالفترة نفسها من العام الفائت. غير أن هذا التحسّن ارتبط مباشرة بتشديدات تنظيمية للبنك المركزي بعدن على الاستيراد وسعر الصرف، أي إنه مكسب إداري أكثر منه تحسّناً في المتغيرات الأساسية كتحسن الصادرات أو زيادة الاحتياطيات. أي ارتخاء في الانضباط النقدي، أو صدمة خارجية في حساب المعاملات الجارية، قد يعيد الضغوط سريعًا على سعر الصرف.
في المقابل، حافظت مناطق سلطة صنعاء على سعر صرف مُدار ومستقر، مع اختلافات بنيوية في بيئة النقد والسيولة منذ قرار منع تداول الطبعات الجديدة من العملة نهاية 2019. أدى نظام السعرين إلى مفارقة ظاهرية في مستويات الأسعار بالعملة المحلية.
خلاصة محور الصرف أن “اختبار الاستدامة” لا يزال قائماً: من دون معالجة العجز التجاري، وتحصيل موارد خارجية مستدامة، وتخفيف اختناقات الواردات، سيظل أي تحسّن سريع في العملة مهدّداً بالارتداد، مع ما يحمله ذلك من موجات تضخمية لاحقة.
الأسعار وسلة الغذاء.. تحسن مؤقت لصالح المستهلك وقلق من تضخم راجع
سجّلت أسعار السلع الأساسية تراجع طفيف في مناطق عدن خلال سبتمبر، واستقراراً عاماً في مناطق صنعاء، متأثرة بمسار الوقود وسعر الصرف. انعكس ذلك على كلفة “سلة الحد الأدنى من الغذاء” التي انخفضت في مناطق الحكومة 14% على أساس سنوي، وبقيت مستقرة في مناطق حكومة صنعاء وأكثر انخفاضاً من متوسط ثلاثة أعوام.
غير أن قيود الاستيراد في الموانئ الشمالية، وحظر استيراد دقيق القمح، لم تتحول إلى قفزة سعرية واسعة بفعل تشدد رقابة الأسعار، لكن المخاطر قائمة إذا طال أمد اضطراب الإمدادات.
في تفاصيل الإمدادات، ارتفعت واردات القمح عبر الموانئ الشمالية والجنوبية مقارنة بالشهر السابق، لكنها تراجعت سنوياً في الشمال وارتفعت في عدن، بحسب نشرة الفاو.
أما الوقود فبقي مستقراً في رأس عيسى وتراجع في عدن والمكلا، فيما حدّت الضربات الجوية من القدرة التشغيلية للموانئ الشمالية وخفّضت طاقتها الاستيعابية، وهو ما ينعكس مباشرة على تكاليف النقل والمخاطر اللوجستية وهوامش الأسعار.
أما الوقود للمستهلك النهائي فبقي مستقراً في مناطق حكومة صنعاء خلال الشهر، بينما انخفض في مناطق حكومة عدن بـ 11–12% شهرياً و16–20% سنوياً، مدفوعاً بتحسّن الريال. ورغم أن الأسعار في الجنوب أصبحت أدنى قليلاً من متوسط ثلاث سنوات، فإن أي عرقلة إضافية للواردات عبر الشمال قد تعيد الضغوط على جانب العرض في صنعاء، وتغذي موجة تضخمية متنقلة بين الجغرافيتين.
القدرة الشرائية والعمل والماشية.. مؤشرات مختلطة تحجبها هشاشة الدخل
تُظهر “شروط التبادل” بين العمل/الماشية والحبوب اتجاهات متباينة: استقرار نسبي لمؤشر الماشية مقابل الحبوب في مناطق حكومة عدن وتراجع طفيف في مناطق حكومة صنعاء على أساس شهري، مع بقائهما أفضل من العام الماضي.
في المقابل، تراجع بسيط لشروط تبادل “العمل اليومي/الحبوب” في مناطق عدن وارتفاع هامشي في مناطق حكومة صنعاء، نتيجة تماسك أسعار الدقيق والوقود هناك وتحسّن أجور العمل غير المنتظم موسمياً. هذه الحركة الدقيقة تؤكد أن أي مكسب سعري لا يترجم تلقائيًا إلى تحسّن صافٍ في القدرة الشرائية ما لم يرتبط بتحسّن مستدام في الدخل.
على صعيد الأجور، انخفضت أجور العمل اليومي والزراعي في مناطق الحكومة متأثرة بتراجع الأسعار وفق قراءة بقش، بينما ارتفعت قليلاً في مناطق صنعاء مع صعود الطلب الموسمي في القطاع الزراعي.
مقارنة بالعام الماضي، بقيت الأجور مستقرة في عدن وأعلى بنحو 17% في صنعاء، لكنها فوق متوسط ثلاثة أعوام في الجغرافيتين. ورغم ذلك، يظل الوزن النسبي للأجر في تغطية كلفة السلة الغذائية محدوداً بفعل هشاشة الدخل واستمرار فجوة الأسعار مع الطاقة الاستهلاكية للأسر.
أسعار الماشية تراجعت قليلاً شهرياً في المنطقتين، لكنها أعلى سنوياً في عدن ومستقرة في مناطق صنعاء، وفقاً لنشرة الفاو، مع توقّعات ببقاء الأسعار مرتفعة نسبياً بسبب قيود الاستيراد. أما أسعار الأسماك (ثمد) فانخفضت بوضوح في عدن وبقيت مستقرة في مناطق حكومة صنعاء، ما يعكس أثر تذبذب الوقود والنقل وتوافر العرض المحلي.
هذه اللوحة المختلطة تؤكد أن الأسر تتعرّض لدفع وسحب متزامنين بين كلفة الغذاء والدخل، وكلها تتغذى على مسار العملة والوقود والإمدادات.
مكاسب هشة تتطلّب سياسة مركّبة واستجابة إنسانية يقظة
يمنح استقرار سعر الصرف وتراجع الأسعار في سبتمبر متنفسًا مرحلياً للأسر، لكنه لا يلغي هشاشة المشهد الكلّي. الإصلاحات التنظيمية ساعدت على تهدئة سوق الصرف وخفض جزء من الكلفة، غير أن استدامة المكاسب مرهونة بعوامل أعمق: معالجة العجز التجاري، تعزيز الاحتياطي، فك اختناقات الموانئ، وتخفيف مخاطر اللوجستيات والوقود.
في غياب ذلك، سيظل أي تحسّن سريع عرضة للانعكاس، لتدخل البلاد في حلقة “تخفيف قصير الأجل/ارتداد تضخمي” التي ترهق المستهلك والسلطة النقدية معاً.
وعلى الضفة الإنسانية، يبقى العنوان الأكبر هو القدرة على الوصول إلى الغذاء، لا توافره فقط. فالتوقعات حتى فبراير 2026 ترجّح بقاء مستويات انعدام الأمن الغذائي مرتفعة للغاية، ما يفرض يقظة في الرصد وسياسات استباقية في إدارة الواردات والأسعار والدعم الاجتماعي، مع توجيه المساعدات إلى الجيوب الأشد هشاشة.
إن تثبيت المكاسب الصغيرة الراهنة وتحويلها إلى مسار نزولي مستدام للأسعار يتطلّب، قبل كل شيء، سياسة اقتصادية منسقة واستقرارًا لوجستيًا يقلّص كلفة المخاطر على كل حلقة من حلقات سلسلة الغذاء.


