“تعال بكرة”.. كيف تحولت البطاقة الذكية في عدن إلى طابور لا ينتهي ومال يُدفع تحت الطاولة؟

الاقتصاد اليمني | بقش
في عدن، يقف المواطن اليوم أمام مشهد لم يكن يتوقعه حين سمع عن مشروع “البطاقة الذكية”. كان الخيال بسيطاً: نظام حديث، إجراءات سريعة، تجربة خالية من العناء. لكن الواقع على الأرض مختلف تماماً، إذ تحولت هذه الخدمة المدنية إلى حلقة انتظار طويلة يبدأ فيها الناس مبكراً وينتهون في ساعات المساء دون أن يجدوا نتيجة واضحة. ما بين أبواب لا تفتح إلا لوقت قصير، ووجوه متعبة تبحث عن إجابة، تتكرر العبارة ذاتها التي أصبحت جزءاً من يوميات كثيرين: “تعال بكرة”.
لا أحد هنا يبحث عن معاملة استثنائية، الكل يطالب بحق بسيط يُفترض أنه مضمون في أي دولة: وثيقة تثبت هويته وتفتح له أبواب باقي الخدمات الرسمية. ومع ذلك، تبدو إجراءات الحصول عليها كأنها سباق في صحراء بلا علامات طريق، يحتاج إلى الصبر أكثر من المستندات، وإلى التحمل أكثر من الترتيبات الورقية. وبينما تُرفع شعارات التحسين والرقمنة، يجد الناس أنفسهم عالقين في خطوات لا تختلف كثيراً عن أسوأ ما عرفوه من قبل.
المشهد يشبه حلقة تدور دون توقف: أوراق، توقيعات، انتظار. وبين كل خطوة وأخرى، غياب واضح للمعلومة وغياب أكبر للإحساس بمعاناة الناس، ما جعل كثيرين يصفون الرحلة بأنها اختبار لصبر المواطن لا قدرته على تقديم وثائقه.
بداية المشوار.. طابور يطول وصوت واحد يعلو
أمام مكاتب الأحوال المدنية في عدن، يبدأ اليوم مبكراً، ويصل كثيرون قبل أن تشرق الشمس، على أمل أن يكون ترتيبهم مبكراً وأن ينجزوا معاملتهم دون انتظار طويل. لكن ما إن يفتح الباب حتى تتضح الصورة: ازدحام أكثر مما يمكن للمكان تحمله، موظفون يعملون بإمكانيات محدودة، ومراجعون يزداد عددهم كل ساعة. لا توجد منظومة تسجيل إلكترونية تحفظ الدور، ولا شاشات توضح مراحل الإنجاز، ولا آلية تُطمئن المواطن أن جهده في الطابور لن يضيع.
حسب مراقبة “بقش” لهذا المشهد، قد يقف شخص ساعات في انتظار معاملة بسيطة، ثم يفاجأ بأن عليه العودة في اليوم التالي لسبب لا يستطيع الموظف نفسه شرحه بشكل واضح. تتكرر الجملة اليومية: “راجع بعد يومين”. وفي الغالب يعود الشخص ليجد أن يومين لا تكفي. حينها يبدأ الشك بالتسلل، ليس في كفاءة العملية فقط، بل في جدوى الاستمرار في محاولة الفهم.
الأكثر تعباً هم القادمون من خارج عدن، إذ يجدون أنفسهم مضطرين للانتظار وسط أجواء مرهقة، تتخللها حرارة، زحام، وصوت مطارد للوقت. هؤلاء تركوا بيوتهم ومسؤولياتهم على أمل إنجاز بسيط، لينتهوا واقفين على أرصفة مكتظة دون أي تأكيد بأن معاملتهم ستُنجز قريباً.
ومع كل يوم إضافي يقضيه المواطن في الطابور، تتراجع ثقته في أن النظام وُضع لخدمته، ويشعر بأنّه مجرد رقم إضافي في قائمة طويلة لا تبدو لها نهاية قريبة.
متطلبات تتغير ومعلومات لا تستقر
تجهيز الأوراق المطلوبة يفترض أن يكون خطوة واضحة لا لبس فيها، لكن الواقع مختلف. هناك من يأتي بكل الوثائق المذكورة، ليفاجأ بطلب جديد لم يُعلن عنه من قبل، أو طلب قديم تمت إضافته للتو، أو توقيع لم يكن ضمن الشروط السابقة. يشعر المواطن أنه في سباق مع متطلبات تتحرك ولا تتوقف عند قاعدة ثابتة.
غياب المعلومات الدقيقة يدفع كثيرين للعودة إلى منازلهم، أو للبحث عن توجيهات من أشخاص سبقوهم في هذه الرحلة، بدلاً من الحصول على إرشاد رسمي مباشر. الإرباك لا يقتصر على الوثائق فقط، بل يمتد إلى مراحل السير، حيث لا يعرف الشخص متى بالضبط سيتم استلام ملفه، أو متى سيتلقى اتصالاً، أو إن كان هناك اتصال أصلاً.
بعض الحالات تحدثت عن ملفات تم فقدانها وسط تراكم المعاملات، ليجد أصحابها أنفسهم أمام خيار مؤلم: البدء من جديد. هذا المشهد يترك أثراً نفسياً مضاعفاً، إذ يشعر المواطن أن جهده ووقته يمكن أن يضيع في لحظة دون تفسير.
ولا يتوقف الانتظار عند المكاتب المحلية، إذ تمر عملية إصدار البطاقة عبر مركز تحكم فني في الرياض يتولى المصادقة النهائية والطباعة. هذا الربط الخارجي، إلى جانب الشكوك الأمنية حوله كونه يرتبط ببيانات سيادية، يضيف أيضاً طبقة زمنية إضافية على الإجراءات ويضع المواطن أمام انتظار أطول دون قدرة الموظفين المحليين على تسريع العملية.
ويصبح الحصول على المعلومة أحياناً أصعب من إكمال الطلب نفسه، فالمراجعون يتناقلون أخباراً ومعلومات بين بعضهم البعض، بينما يغيب الصوت الرسمي الواضح الذي يجب أن يحدد لكل مواطن ما عليه فعله منذ البداية وحتى النهاية.
تكلفة الوقت والمال.. عبء إضافي على العائلات
حين تتراكم أيام الانتظار، يصبح لكل يوم ثمن. ليست المشكلة مجرد أوراق أو مراجعات، بل غياب عن العمل، مصاريف مواصلات، وربما إيجارات لمن جاء من محافظات أخرى. العائلات التي تضطر لمرافقة أفرادها تواجه جملة من التكاليف اليومية التي تتضاعف كلما تأخرت المعاملة، ما يحوّل البطاقة من إجراء رسمي إلى ضغط اقتصادي ملموس.
بعض العائلات تقيم في عدن لأيام أو أسابيع، تنفق من مدخراتها وتؤجل التزاماتها وفق متابعات بقش، فالحصول على البطاقة لم يعد مسألة ثوانٍ أمام جهاز تصوير ومستند إلكتروني، بل عملية مرهقة تستنزف المال قبل أن تستنزف الوقت. هناك من اضطر لبيع جزء من ممتلكاته ليغطي نفقات الرحلة، وهناك من يضطر لطلب المساعدة من أقارب خارج اليمن.
هذه ليست رفاهية بل خدمة أساسية. ومع ذلك، يدفع المواطن ثمنها بمستوى لا يناسب دخله ولا ظروف حياته. وفي بلد يعاني معظم سكانه من صعوبات معيشية، تصبح تكاليف الإجراءات عبئاً لا يحتمله كثيرون مهما كانت أهمية الوثيقة.
الشعور الأصعب هو أن هذه التكاليف لم تكن قدراً لا مفر منه، بل نتيجة لغياب خطط واضحة ونظام إداري منظم يحترم وقت الناس وجهدهم.
غياب التفسير.. وصوت المواطن بلا صدى
مع كل هذه الصعوبات، يظل السؤال الأكبر دون إجابة: لماذا كل هذا التعقيد؟ لا بيانات رسمية توضح سبب الازدحام، ولا تصريحات تشرح ما الذي يجري خلف الأبواب المغلقة. يظل الناس في انتظار تحسينات لا تأتي، ووعود لا تتحقق، في وقت يتزايد فيه الضغط اليومي على المواطن.
البعض يحاول التعبير، لكن الشكاوى تتحول إلى أحاديث جانبية بين الواقفين في الطابور، بينما يغيب دور رقابي فعلي قادر على متابعة أداء المكاتب ومحاسبة المقصرين. تتراكم التجارب السلبية، وتتحول إلى روايات يرويها الناس لبعضهم البعض، ما يخلق شعوراً عاماً بأن النظام لا يرى ولا يسمع.
ورغم ذلك، لا يزال المواطن يحضر كل صباح أملاً في تغير بسيط. فالمطلوب ليس معجزة، بل تنظيم، مواعيد واضحة، واحترام لوقت الإنسان وكرامته. أصوات كثيرة تردد جملة واحدة تصف الواقع: “نحن لا نطلب شيئاً أكثر من حقنا”.


