
الاقتصاد اليمني | بقش
على الطرق المتشققة والمتهالكة يمضي اليمنيون يومياً في رحلة محفوفة بالموت، بين بنية تحتية مهترئة ومسارات لم تعرف الصيانة منذ عقود، في بلد أنهكته الحرب وتآكلت مؤسساته، ما حوَّل الطرق إلى مقابر مفتوحة تحصد الأرواح.
آخر فصول هذه المأساة تلك الحادثة التي وقعت نهاية الأسبوع الماضي، في منطقة العرقوب (نقيل العرقوب) بمحافظة أبين، حين اصطدمت حافلة نقل جماعي تقل عشرات المسافرين قادمين من السعودية بمركبة صغيرة، لتتحول في لحظات إلى كتلة من اللهب امتدت لقرابة 4 ساعات، والتهمت أكثر من ثلاثين شخصاً.
مشهد مأساوي تجاوز حدود الحزن إلى الغضب الشعبي والذهول أمام ما حدث، بعدما عجز الركاب عن النجاة إثر انغلاق باب الحافلة واشتعالها بالكامل.
وكانت الحافلة، التي تحمل نحو 42 راكباً، تشق طريقها في المنحدرات الجبلية الوعرة في نقيل العرقوب، عندما اصطدمت بسيارة من نوع فوكسي، فانفجرت النيران فوراً وفق اطلاع مرصد “بقش” على تفاصيل الحادثة.
وأغلقت ألسنة اللهب الباب الرئيسي، مع عجز المارة عن إطفاء الحريق أو الوصول إليهم في الوقت المناسب.
ويوصف الحادث بأنه الأشد مأساوية منذ مطلع العام، بعد أن تجاوز عدد الضحايا ثلاثين شخصاً، وبات الضوء مسلطاً على الطرق اليمنية التي تحصد عشرات الأرواح سنوياً إلى أن أصبحت طرقاً قاتلة بصمت، وخاصة طريق العرقوب الذي بات من أخطر الطرق الجبلية في اليمن بسبب سلسلة من الحوادث المروعة على مدار السنوات الماضية.
تصريح رسمي يثير الاستياء
هيئة تنظيم شؤون النقل البري قالت في بيان اطلع عليه بقش إن الحافلة التابعة لشركة صقر الحجاز، القادمة من السعودية، كانت مرخصة وتستوفي معايير السلامة، وأرجعت الكارثة والكوارث المماثلة إلى “القضاء والقدر”، مشيرةً إلى أنها تتابع التحقيقات لمعرفة ملابسات الحادث.
لكن هذا التصريح أثار استياء في الأوساط الشعبية، إذ رأى كثيرون على منصات التواصل الاجتماعي أن تعليق المآسي على مشجب القدر بات غطاءً للإهمال والفساد وضعف الدولة وعدم وجود أي خطط أو أنشطة لإنقاذ الطرق اليمنية من التهالك.
ورأى بعض الناشطين أن هناك ضعفاً في جاهزية فرق الإنقاذ مع تكرار حوادث السير في اليمن، وحمّل البعضُ السائقين مسؤولية السرعة الجنونية، بينما دعا آخرون لتفعيل الدفاع المدني وتوفير فرق طوارئ على الطرقات الحيوية، معتبرين أن الإهمال الرسمي يزيد من مأساة الحوادث القاتلة.
وبدوره أصدر رئيس المجلس الرئاسي، رشاد العليمي، بيان تعزية ووجّه بصرف مساعدات لأسر الضحايا وصيانة الطريق. وحسب ناشطين، تتكرر مثل هذه البيانات عقب كل مأساة، ثم تُطوى الملفات حتى وقوع الكارثة التالية.
في الوقت نفسه، تتدهور مستويات الفحص الفني للمركبات في غياب رقابة مركزية، بينما يستمر استيراد الحافلات والسيارات المستعملة التي تفتقر إلى شروط السلامة.
طرق الموت.. البنية التحتية في موت سريري
لا تُعد حادثة نقيل العرقوب استثناء، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الكوارث اليومية التي تشهدها الطرق اليمنية، فمن طريق صنعاء – الحديدة إلى نقيل يسلح في ذمار، ومن نقيل سمارة في إب إلى عقبة ثرة في أبين، تتكرر الحوادث المميتة على نحو يثير الرعب.
وتشير تقديرات تتبَّعها مرصد بقش إلى أن مئات اليمنيين يفقدون حياتهم سنوياً في حوادث مرورية ناجمة عن رداءة الطرق، وغياب الصيانة الدورية، إضافة إلى انعدام اللوحات الإرشادية والإنارة.
وفاقمت الحرب من كارثية الطرق، فقد توقفت مشاريع البنية التحتية، وتحولت ميزانيات الصيانة إلى نفقات عسكرية أو إدارية وفقاً للتقارير، بينما تُركت الطرق فريسة للسيول والتآكل والزحف الترابي.
وفي بعض المناطق الجبلية، تتصدع الطرق بفعل الانهيارات الصخرية دون أي تدخل حكومي، ما يجعل السفر بين المحافظات أشبه بمغامرة يومية للمواطنين نحو المجهول.
ولا تقتصر تداعيات حوادث الطرق على الخسائر البشرية فحسب، بل تمتد لتشمل خسائر اقتصادية ضخمة تُقدر بمليارات الريالات سنوياً، وتتمثل في فقدان الأيدي العاملة، وتلف المركبات والبضائع، والتكاليف المرتبطة بالعلاج والإسعاف، وغيرها، فضلاً عن الآثار الاجتماعية الأشد قسوة، المتمثلة في فقدان الناس لذويهم في لحظة، وغرق الأسر في العوز والحزن، وفقدان المجتمعات المحلية ثقتها في مؤسسات الدولة وقدرتها على حمايتهم.
وفي بعض المناطق الريفية، تحولت الطرق المنهارة إلى عائق أمام التعليم والخدمات الصحية، حيث يمنع تدهور البنية التحتية وصول سيارات الإسعاف أو نقل المرضى والحوامل إلى المستشفيات.
وفي تعليق لـ”بقش”، يقول المحلل الاقتصادي أحمد الحمادي إن ما يحدث على الطرق اليمنية ناتج في المقدمة عن الإهمال المؤسسي وتآكل الدولة، فغياب التخطيط، وتوقف المشاريع الإنمائية، وانعدام المساءلة، كلها عوامل جعلت من الطرق فخاخاً قاتلة.
ويشير إلى أن حادثة نقيل العرقوب يجب ألا تُطوى كسابقاتها من الحوادث المؤلمة، واصفاً الحادثة بأنها جرس إنذار لواقع لم يعد يُحتمل، مضيفاً: “فبينما تُصرف المليارات على الصراع السياسي والعسكري، يبقى شريان الحياة (الطرق) ميتاً ويبتلع اليمنيين واحداً تلو الآخر”.
ولا يتطلب إنقاذ الأرواح أكثر من إرادة سياسية جادة وخطة وطنية لإعادة تأهيل الطرق وشبكات النقل، ووضع معايير سلامة صارمة، وتفعيل الرقابة والمساءلة، وحتى ذلك الوقت تبقى الطرق في اليمن دائرةً حول الحلقة الكارثية المفرغة، التي تفرض علامة الاستفهام: من ينقذ اليمنيين من الإهمال القاتل؟


