ألمانيا تعيد رسم علاقتها مع الصين: من الشريك التجاري إلى المنافس الاستراتيجي

الاقتصاد العالمي | بقش
لم تعد ألمانيا تتعامل مع الصين كقوة اقتصادية موازية، بل كفاعلٍ يفرض على برلين إعادة التفكير في موازين القوة داخل التجارة العالمية. فبعد عقود من الاعتماد على السوق الصينية لتصريف المنتجات الألمانية واستيراد المواد الخام الحيوية، بدأت الحكومة الائتلافية في برلين بوضع أسس مراجعة شاملة لسياساتها تجاه بكين.
وحسب ما نقلته رويترز عن مصادر حكومية، فإن المستشار فريدريش ميرتس وشركاءه في الائتلاف وافقوا على تشكيل لجنة متخصصة لدراسة “العلاقات التجارية ذات الصلة بالأمن بين ألمانيا والصين” وفق اطلاع مرصد “بقش” على رويترز، على أن تقدم توصياتها مرتين سنوياً للبرلمان.
هذه الخطوة تمثل بداية تحول جوهري في فهم برلين للعلاقة الاقتصادية، إذ لم تعد قائمة على منطق التبادل البحت، بل على منطق الحذر الاستراتيجي.
التحرك الجديد ليس مجرد استجابة آنية للتوتر التجاري بين بكين وبرلين، بل تعبير عن تبدّل في العقل السياسي الألماني الذي بات يرى في الارتباط العميق بالاقتصاد الصيني نقطة ضعف وليست ميزة تنافسية. إنه انتقال بطيء من مرحلة “التكامل الصناعي” إلى “التحصين الاقتصادي”، في ظل عالم باتت فيه سلاسل الإمداد أداة ضغط لا وسيلة تعاون.
مخاوف من الاعتماد المفرط: دروس المعادن النادرة والطاقة
منذ منتصف العقد الماضي، بدأت الصناعة الألمانية تدرك أن نموها المتسارع مرهون بإرادة الصين. القيود التي فرضتها بكين على تصدير المعادن النادرة كشفت مدى هشاشة القاعدة الإنتاجية الأوروبية، خصوصاً في قطاع السيارات الكهربائية الذي يمثل العمود الفقري للصناعة الألمانية.
ووفق تقرير رويترز الذي طالعه بقش، فإن هذه المخاطر دفعت برلين إلى مراجعة علاقاتها التجارية ليس فقط في ما يتعلق بالواردات، بل أيضاً بالاستثمارات الصينية داخل البنية التحتية الحيوية مثل الموانئ وشبكات الاتصالات والطاقة. التحذير واضح: لا يمكن الاعتماد على مورد واحد في عالمٍ تُستخدم فيه التجارة كسلاح.
ما تريده برلين اليوم ليس قطع العلاقات مع الصين، بل بناء توازن جديد يقلل من قابلية التأثر بأي صدمات سياسية أو اقتصادية. لهذا السبب، تُطرح فكرة إعادة توزيع سلاسل الإمداد الأوروبية وإطلاق برامج تصنيع محلية للمواد الأساسية، في محاولة لاستعادة شيء من السيادة الاقتصادية التي فقدتها أوروبا أمام آسيا خلال العقدين الماضيين.
لكن ذلك يأتي بكلفة باهظة، فتنويع الشركاء يعني التخلي عن الأسعار المنخفضة التي كانت تقدمها الصين، واستبدالها باستثمارات محلية مرتفعة التكلفة تحتاج إلى دعم حكومي مستدام، وهو تحدٍ يهدد تنافسية ألمانيا في الأسواق العالمية.
التحالف الصناعي الأوروبي: بديل أم وهم جديد؟
في ظل هذه المراجعة، تتحدث الحكومة الألمانية عن بناء “تحالف صناعي أوروبي” لتقليل الاعتماد على الصين في سلاسل الإمداد الحيوية. المشروع يبدو طموحاً على الورق، لكنه يصطدم بواقع أوروبي منقسم اقتصادياً. فبينما تسعى برلين لقيادة هذا التحول، تتردد بعض الدول في تقليص تعاونها مع بكين خوفاً من فقدان الاستثمارات أو الأسواق.
من منظور استراتيجي، تسعى ألمانيا لتكرار تجربة “الاستقلال الطاقي” التي فرضتها أزمة أوكرانيا، لكن هذه المرة في الميدان الصناعي. إنها محاولة لبناء جدار أوروبي اقتصادي يحميها من تقلبات الشرق، وإن كان ذلك يعني فقدان جزء من المكاسب السريعة التي جنتها من السوق الصينية طوال العقدين الماضيين.
غير أن المعضلة الأهم تكمن في أن أي سياسة تجارية أوروبية بديلة لا يمكن أن تتحقق دون تضامن مالي كبير من دول الاتحاد، وهو ما يجعل المشروع عرضة للبطء والبيروقراطية، تماماً كما حدث في ملف الطاقة حسب متابعات بقش. لذلك، يخشى المراقبون أن تتحول “خطة الاستقلال الصناعي” إلى شعار سياسي أكثر منها واقعاً قابلاً للتنفيذ.
ألمانيا تدخل زمن الحذر الاقتصادي
هذا التحول يُقرأ على أنه بداية مرحلة جديدة في التفكير الاقتصادي الألماني، مرحلة تتعامل فيها برلين مع التجارة باعتبارها أداة أمن قومي لا مجرد نشاط مالي. فالصين لم تعد الشريك الموثوق الذي يعزز النمو، بل المنافس الذي يُملي شروط السوق ويختبر قدرة ألمانيا على الصمود دون الاعتماد عليه.
ما تقوم به ألمانيا اليوم يشبه إعادة تعريف لمفهوم “الانفتاح”، بحيث يصبح مقيداً باعتبارات أمنية واستراتيجية. هي لا تعلن القطيعة مع بكين، لكنها تؤسس لعلاقة مشروطة تُدار بحذر وتُراجع باستمرار.
وإذا ما نجحت في بناء هذا التوازن، فسيكون ذلك إيذاناً بدخول أوروبا مرحلة جديدة من الواقعية الاقتصادية، حيث لا تُقاس الشراكات بحجم الأرباح فقط، بل بدرجة الأمان التي توفرها.


