ضياع 55 مليار دولار في أمريكا.. إنهاء الإغلاق الحكومي يبدأ مرحلة جديدة من الاضطراب الاقتصادي

تقارير | بقش
يتجه أطول إغلاق حكومي في تاريخ أمريكا إلى نهايته اعتباراً من يوم غد الأربعاء وفق وكالة “بلومبيرغ”، بعد أن أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع تمويل مؤقت بدعم من مجموعة تضم ثمانية ديمقراطيين وسطيين، وبدعم من ترامب أيضاً، حيث تم تصويت مجلس الشيوخ بأغلبية 60 مقابل 40 صوتاً يوم أمس الإثنين، وسط تفاقم اضطرابات الرحلات الجوية وقطع المساعدات الغذائية وكذلك قطع الرواتب الذي تسبب في إحباط لدى الموظفين الحكوميين.
ويتعين على مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون الموافقة على حزمة إنفاق تُبقي معظم مؤسسات الحكومة مفتوحة حتى 30 يناير 2026، وبعض الوكالات حتى 30 سبتمبر، لكن رئيس المجلس “مايك جونسون” قال وفق اطلاع “بقش” إنه يعتقد أن الحزمة ستمر بسرعة.
وأنهى الديمقراطيون الوسطيون الإغلاق بقبول وعدٍ من الجمهوريين بأن يصوّت مجلس الشيوخ بحلول منتصف ديسمبر على تمديد الإعفاءات الضريبية الخاصة بتأمينات “أوباماكير”، لكن لا يوجد ما يضمن أن يحظى الاقتراح بدعم كافٍ من الجمهوريين لتمريره، بينما قال جونسون إنه لن يعد بإجراء تصويت في مجلس النواب على المسألة.
وثمة انقسام داخل الحزب الديمقراطي، إذ انتقد حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم الاتفاق واصفاً إياه بـ”المثير للشفقة”، فيما هاجم حاكم إلينوي جي بي بريتزكر تصويت مجلس الشيوخ معتبراً إياه “وعداً فارغاً”. وحسب قراءات بقش، قالت عضو مجلس الشيوخ إليزابيث وارن، الديمقراطية عن ماساتشوستس: “أعتقد أنه خطأ فادح. الشعب الأمريكي يريدنا أن نقف وندافع عن الرعاية الصحية، وهذا ما يجب أن نفعله”.
ووجّه زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب حكيم جيفريز، انتقادات للخطة الخاصة بإعادة فتح الحكومة، مؤكداً أن الديمقراطيين في مجلسه لن يدعموها. وترى وكالة بلومبيرغ أن الاتفاق يُظهر مدى صعوبة استغلال الديمقراطيين لنفوذهم المحدود في واشنطن التي يسيطر عليها الجمهوريون، لعرقلة أجندة ترامب.
ندوب الإغلاق أكبر من إنهائه
رغم عودة بعض الدوائر الفيدرالية إلى العمل تدريجياً، فإن الخبراء يجمعون على أن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة لهذا الإغلاق لن تتبدد بمجرد رفع الحواجز أمام المكاتب الفارغة، وأن آثارها قد تمتد لأشهر، بل لسنوات، في مفاصل الاقتصاد الأمريكي.
وتؤكد وكالة بلومبيرغ أن تداعيات الإغلاق مستمرة رغم التوصل للاتفاق، فقد يستغرق الأمر أياماً حتى تعود حركة السفر الجوي إلى طبيعتها، وربما فترة أطول بالنسبة لمعظم الأمريكيين ذوي الدخل المحدود، والبالغ عددهم 42 مليوناً، المسجلين في برنامج الدعم الغذائي الفيدرالي “SNAP”، ومن المرجح أن تشهد الحكومة الفيدرالية تراكمات وتأخيرات طويلة مع إعادة فتح أبوابها.
حسب اطلاع بقش على البيانات الرسمية، كبّد الإغلاق الحكومة والاقتصاد الأمريكي نحو 55 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأخير من العام، ما تسبب بتراجع النمو بمقدار 0.2%.
ورغم أن جزءاً من هذه الخسائر سيُستعاد مع عودة المؤسسات للعمل، فإن نحو 11 مليار دولار من الناتج القومي ضاعت بشكل دائم، إضافة إلى 3 مليارات دولار تكلفة مباشرة لعمليات الإغلاق وإعادة التشغيل.
وانعكس هذا النزيف المالي على حياة أكثر من 800 ألف موظف فيدرالي حُرموا من رواتبهم طوال الأسابيع الستة، مما سحب 1.7 مليار دولار أسبوعياً من الدخل القومي، وأدى إلى انكماش الاستهلاك وتراجع الثقة بالمؤسسات الاقتصادية، خصوصاً في موسم كان يُفترض أن يشهد ذروة النشاط التجاري قبيل أعياد نهاية العام.
وحدث شلل شبه كلي في قطاع الطيران، حيث اضطرت هيئة الطيران الفيدرالية إلى تقليص الرحلات تدريجياً بنسبة وصلت إلى 10% نتيجة نقص المراقبين الجويين الذين عمل كثير منهم بلا أجر، ما أدى إلى إلغاء نحو 2950 رحلة وتأخير 10,800 رحلة في يوم واحد (06 نوفمبر 2025)، في أسوأ يوم منذ بدء الأزمة.
وتقدّر وزارة التجارة الأمريكية أنّ قطاع السياحة والسفر خسر قرابة مليار دولار أسبوعياً، بينما خسرت المتنزهات الوطنية والمتاحف الفيدرالية والمجتمعات المحيطة بها نحو 80 مليون دولار يومياً بسبب غياب 425 ألف زائر يومياً، كما فقدت الفنادق أكثر من 650 مليون دولار في الأسابيع الأولى فقط.
ولم يكن المزارعون أفضل حالاً. الإغلاق أدى إلى إغلاق نصف مكاتب وزارة الزراعة وتسريح ثلثي موظفي وكالة خدمات المزارع، وبالتالي جُمّدت القروض والدعم وتعطلت برامج التعويض الحيوية، إضافةً إلى توقف نشر بيانات السوق الزراعية التي يعتمد عليها المزارعون في تحديد الأسعار والتخطيط للمواسم القادمة.
امتد الأمر إلى برامج التغذية الفيدرالية التي يعتمد عليها أكثر من 40 مليون أمريكي، حيث أدى تسريح 98% من موظفيها إلى ارتباك واسع في صرف الإعانات وزيادة الضغط على بنوك الطعام والجمعيات الخيرية.
ومَسَّ الإغلاق صميم البنية الاقتصادية الجديدة في الولايات المتحدة، ففي مجال التكنولوجيا توقفت عمليات المراجعة والموافقات التنظيمية، ما أدى إلى تأجيل قضايا كبرى كمكافحة الاحتكار ضد “أمازون”، وتجميد مراجعة طلبات الطرح العام الأولي لشركات التقنية الناشئة.
وتوقفت كذلك المؤسسة الوطنية للعلوم عن إصدار مئات المنح البحثية، وأغلقت المعاهد الوطنية للصحة أبوابها أمام المرضى الجدد في التجارب السريرية، مما عطّل أبحاثاً طبية وتقنية حساسة وجمّد مشاريع ناشئة في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية.
كما تأثر تدفق العقود الفيدرالية التي تضخ عادة 13 مليار دولار أسبوعياً، ما أثر بشدة على سيولة الشركات الصغيرة، ورفع من المخاطر السيبرانية نتيجة تقليص فرق الأمن الإلكتروني العاملة في الوكالات الحكومية.
معاقبة الموظفين بالفشل السياسي.. وانتصار لترامب
الباحث دونالد موينهين، خبير السياسات العامة في جامعة ميشيغان، يرى أن الإغلاق ترك “ندبة إضافية داخل الجهاز البيروقراطي”، وأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تعاقب موظفيها عندما يفشل السياسيون في تمرير الموازنة.
ويحذر موينهين من أن استغلال الأزمة لاستهداف وكالات توصف بأنها “ديمقراطية” أضعف ثقة الموظفين والمواطنين بالدولة، متوقعاً ارتفاعاً في معدلات الاستقالات في صفوف الكفاءات الحكومية، إذ “سيكون العام القادم الأصعب على البيروقراطية الأمريكية منذ عقود”.
وحسب أستاذ القانون الدستوري بجامعة جورج تاون، ديفيد سوبر، فإن التسوية الحالية تمثل انتصاراً واضحاً للرئيس دونالد ترامب والجمهوريين، بعدما نجحوا في فرض شروطهم على التمويل دون تقديم تنازلات كبيرة.
ويَعتبر سوبر أن تراجع الديمقراطيين دون انتزاع ضمانات تُلزم الإدارة باحترام سلطة الكونغرس في الاعتمادات “سيشجع ترامب على مواصلة سياسة تحويل الموارد نحو برامجه المفضلة”، مما يضعف قدرة الكونغرس مستقبلاً على فرض رقابة مالية فعالة.
لكن هذا “الانتصار” قد يحمل في طياته تكلفة سياسية مؤجلة، إذ قد يتزايد الغضب الشعبي إذا ارتفعت أقساط التأمين الصحي أو تعرض الاقتصاد لانتكاسة جديدة، في وقت يشهد فيه المجتمع الأميركي انقساماً سياسياً حاداً وتراجعاً غير مسبوق في الثقة بالمؤسسات.
التعافي لا يزال مبكراً
يُجمع محللون على أن الاقتصاد الأمريكي سيحتاج إلى أشهر لاستعادة توازنه، وربما سنوات لاستعادة الثقة التي تآكلت خلال 41 يوماً من الشلل الكامل، في وقت تزداد فيه التحديات العالمية والتقلبات في أسواق الطاقة والتجارة الدولية.
فقد أحدث الإغلاق الحكومي حالة من الاضطراب في الأسواق المالية، وشهدت الأسهم الأمريكية تراجعاً وهبط مؤشر الدولار أمام سلة العملات الرئيسية مع ازدياد مخاوف المستثمرين من توقف الإنفاق الفيدرالي.
وفي المقابل قفزت أسعار الذهب بأكثر من 3% باعتباره ملاذاً آمناً وسط الشكوك السياسية. وفي أحدث التقديرات التي تتبَّعها “بقش” يتوقع بنك “يو بي إس” السويسري ارتفاع أسعار الذهب العالمية إلى مستوى 4,700 دولار للأونصة مع استمرار الطلب على الملاذات الآمنة بسبب تزايد المخاطر السياسية والمالية، حتى لو أدى إنهاء إغلاق الحكومة الأمريكية إلى تحسن معنويات المستثمرين.
كما ارتفعت العملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين بنسبة 8% خلال فترة الإغلاق وفق متابعات بقش، مدفوعة بتزايد المخاوف من ضعف النظام المالي التقليدي.
وأظهرت هذه التحركات هشاشة الثقة العالمية في استقرار الاقتصاد الأمريكي الذي يُعد محور النظام المالي الدولي.
فقد كشف الإغلاق الحكومي الأطول في التاريخ الأمريكي عن ثغرات عميقة في بنية الاقتصاد والسياسة الأمريكية، وأكد أن الخلافات الحزبية لم تعد مجرد تنافس ديمقراطي، بل تحولت إلى عامل تهديد مباشر للاستقرار المالي والاجتماعي.
ورغم أن فتح الحكومة من جديد قد يبعث على الارتياح المؤقت، إلا أن التداعيات طويلة المدى لا يمكن تجاوزها بسهولة، من تراجع الإنتاجية العامة وفقدان الكفاءات الحكومية، إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وتذبذب الأسواق العالمية المرتبطة بالدولار.


