نزوح 200 ألف إسرائيلي خلال عامين: أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية تهز إسرائيل من الداخل

تقارير | بقش
تشهد إسرائيل واحدة من أكبر موجات النزوح الداخلي والخارجي في تاريخها الحديث، إذ كشفت صحيفة ذي ماركر الإسرائيلية عن مغادرة نحو 200 ألف إسرائيلي للبلاد منذ تشكيل الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو.
هذا النزوح الضخم لا يعكس فقط آثار حرب غزة، بل يكشف عمق الأزمة السياسية التي تعصف بالدولة، وتراجع ثقة الإسرائيليين في مؤسسات الحكم، وتفاقم الانقسام بين التيارات المتنافسة داخل المجتمع.
وتشير البيانات الرسمية إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات الهجرة خلال العامين الماضيين، حيث يغادر إسرائيل أكثر من 6000 شخص شهرياً وفق اطلاع بقش، في حين يسجل ميزان الهجرة رقماً سلبياً يقترب من 4000 مهاجر صافٍ كل شهر.
هذه الأرقام تمثل ضعف المعدلات المسجلة قبل تشكيل الحكومة الحالية، ما يشير إلى أن الأزمة بنيوية وممتدة تتجاوز الظرف الأمني، وتمتد إلى المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي في آن واحد.
وفي ظل رفض الحكومة تشكيل لجنة تحقيق مستقلة حول أحداث 07 أكتوبر، وتصاعد الهجمات على القضاء والشرطة والإعلام، وتواصل الانقسام الداخلي الحاد، يبدو أن موجة النزوح ليست حالة عابرة، بل ظاهرة متجذرة تعكس انهيار ثقة فئات واسعة من الإسرائيليين في قدرة الدولة على توفير الأمن والاستقرار والعدالة. هذا النزوح المتزايد يهدد التركيبة السكانية والسياسية لإسرائيل، ويؤسس لتحولات اجتماعية وسياسية قد تمتد آثارها لسنوات قادمة.
الأزمة السياسية وفقدان الثقة في الحكومة
تعكس موجة النزوح الحالية أزمة سياسية غير مسبوقة داخل إسرائيل، حيث اتُهمت الحكومة بتقويض مؤسسات الدولة ومحاولة إنهاء استقلال القضاء والشرطة والإعلام، في إطار ما تصفه المعارضة بـ”الانقلاب على النظام الديمقراطي”. وفي ظل فشل الحكومة في إدارة حرب غزة وتجاهل الدعوات إلى تحقيق مستقل في أحداث 07 أكتوبر، تصاعد شعور عام بأن الدولة فقدت البوصلة السياسية.
وترى الصحيفة الإسرائيلية أن الحكومة الحالية تواصل صرف الأنظار عن مسؤوليتها تجاه الإخفاقات الأمنية والسياسية، ما يساهم في تصاعد حالة “اليأس القومي” داخل المجتمع حسب قراءة بقش. ومع استمرار الخطاب الرسمي الذي يحمّل الآخرين مسؤولية الفشل، يشعر الكثير من الإسرائيليين بأن الدولة عاجزة عن إصلاح نفسها أو تقييم أخطائها.
ويُضاف إلى ذلك الانقسام السياسي الحاد بين اليمين المتدين والليبراليين في تل أبيب، حيث يشعر التيار العلماني بأنه يتعرض للتهميش، وبأن القرارات الحكومية تُتخذ لخدمة قاعدة يمينية متشددة، ما يدفع العديد من الشباب المتعلمين إلى التفكير بالهجرة كخيار وجودي وليس خياراً اقتصادياً فقط.
هجرة الشباب والطبقة المتعلمة: انهيار الحلم الاقتصادي
تشير بيانات مكتب الإحصاء المركزي التي تتبَّعها مرصد بقش إلى أن معظم المغادرين هم من فئة الشباب، خصوصاً من تل أبيب، التي سجلت معدل هجرة وصل إلى 14% في عام 2024، ارتفاعاً من 9.6% في عام 2010. وتعد تل أبيب مركز الثقل الليبرالي والتكنولوجي في إسرائيل، ما يعني أن الطبقات المنتجة والمعرفية هي الأكثر مغادرة. وهذا مؤشر خطير على تفكك البنية الاجتماعية التي تعتمد عليها إسرائيل في الابتكار والاقتصاد.
وفي المقابل، تراجع معدل الهجرة من القدس -مركز الثقل المحافظ والديني- من 11.8% عام 2010 إلى 6.5% فقط في عام 2024. هذه الفجوة بين المدينتين تعبّر عن اتساع الانقسام الأيديولوجي بين القطاعات الدينية والليبرالية، وتكشف عن صراع ديموغرافي بدأ يغيّر الوجه الاجتماعي لإسرائيل.
هذا النزوح يعكس أيضاً فقدان الأجيال الشابة الثقة بالنظام السياسي. فالفئات المتعلمة والعاملة في مجالات التكنولوجيا، والبحث العلمي، والطب، والمالية -وهي محركات الاقتصاد الإسرائيلي- تشعر اليوم بأن الدولة لم تعد توفر البيئة المستقرة التي تسمح لها بالازدهار. ومن هنا يتشكل نزوح نوعي، قد تكون له آثار طويلة المدى على الهوية المدنية للدولة.
وتشكّل مغادرة 200 ألف إسرائيلي، معظمهم من الكفاءات المهنية العالية، ضربة موجعة للاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد بشكل كبير على رأس المال البشري. فهروب العاملين في قطاع التكنولوجيا — الذي يشكل نحو 18% من الناتج المحلي — يهدد قدرة إسرائيل على الحفاظ على موقعها العالمي كمركز للابتكار.
وتشير تقديرات خبراء الاقتصاد إلى أن الشركات الناشئة، التي تُعد العمود الفقري لصناعة التكنولوجيا الإسرائيلية، تواجه أزمة في إيجاد مهندسين ومطورين ومحللين ذوي خبرة، إذ تتجه النخب العلمية إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا. وهذه الهجرة تضاعف الأزمة المالية الداخلية، خاصة مع ارتفاع تكاليف الحرب وتراجع الاستثمارات الخارجية.
كما ينعكس النزوح على سوق العقارات والاستهلاك والضرائب، إذ يؤدي خروج الطبقة المتوسطة والعليا إلى انخفاض الإيرادات الضريبية وتراجع القوة الشرائية. ومع غياب أي إجراءات حكومية للحد من هذه الهجرة، تتجه إسرائيل نحو تحديات اقتصادية قد تمتد عقداً كاملاً أو أكثر.
تداعيات أمنية واجتماعية: دولة في حالة تفكك داخلي
لا يمكن فصل موجة النزوح عن الأزمة الأمنية التي فتحتها أحداث 07 أكتوبر، حيث فقد الإسرائيليون الثقة في قدرة الجيش على الحماية بعد ما اعتُبر أكبر فشل أمني منذ قيام الدولة. هذا الشعور بالهشاشة دفع عشرات الآلاف للتفكير في الهجرة كوسيلة لتأمين مستقبل أكثر استقراراً لأنفسهم ولأسرهم.
على المستوى الاجتماعي، تسببت السياسات الحكومية في زيادة الانقسام بين التيارات الدينية والعلمانية، وبين اليمين المتطرف واليسار الليبرالي. هذا الانقسام لم يعد مجرد خلاف أيديولوجي، بل تحول إلى صراع ديموغرافي وسياسي يهدد التعايش الداخلي. وتُظهر البيانات التي تابعها بقش أن الفئات الأكثر نزوحاً هي صاحبة التوجهات الليبرالية، ما يعزز سيطرة التيارات اليمينية المتشددة على المشهد الداخلي.
ويرى مراقبون أن استمرار الحرب، وتجاهل الحكومة لدعوات التحقيق، وتوسع مشاريع الاستيطان، كلها عوامل تجعل إسرائيل بيئة غير مستقرة اجتماعياً. ومع زيادة قيود الحكومة على القضاء والإعلام، يميل المواطنون إلى الاعتقاد بأن “مساحة الحرية تتقلّص”، وهو أمر يدفع المزيد إلى اختيار المغادرة.
تؤكد موجة النزوح الحالية أن إسرائيل تمر بأزمة شاملة لا تقتصر على المجال الأمني أو السياسي، بل تمتد إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية والهوية الوطنية نفسها. فمغادرة 200 ألف شخص خلال أقل من عامين تعكس فقداناً واسعاً للثقة بالدولة، وتكشف أن قطاعات مؤثرة -الشباب، المتعلمين، والطبقة الوسطى- لم تعد ترى في إسرائيل بيئة آمنة أو مستقرة.
ومع استمرار الحكومة في تجاهل الأزمة وعدم فتح أي نقاش عام حولها، يبدو أن موجة الهجرة ستتوسع، مما قد يعيد تشكيل الخريطة الديموغرافية والسياسية في البلاد، ويعمّق سيطرة التيارات الدينية واليمينية على الحكم.
مستقبل إسرائيل في السنوات القادمة قد يتحدد بناءً على طريقة تعامل الحكومة مع هذه الظاهرة: هل ستعترف بالأزمة وتبدأ إصلاحاً عميقاً، أم ستواصل سياسة الإنكار التي تدفع بالمزيد من المستوطنين إلى الخارج؟ ما هو مؤكد أن النزوح الحالي يمثّل نقطة تحول تاريخية في الداخل الإسرائيلي، وحدثاً ستتردد آثاره لسنوات طويلة.


