
تقارير | بقش
تشهد سوق العمل الأمريكية حالة اضطراب متزايدة مع استمرار الإغلاق الحكومي، الذي أدى إلى انقطاع أبرز السلاسل الإحصائية التي يعتمد عليها الاقتصاديون في قياس أداء التوظيف ونبض الاقتصاد الحقيقي.
ورغم هذا الفراغ في البيانات، أظهرت الأرقام المنشورة عبر القنوات البديلة لوزارة العمل ارتفاع طلبات إعانة البطالة الأولية إلى 232 ألف طلب خلال الأسبوع المنتهي في 18 أكتوبر وفق اطلاع مرصد “بقش”، في إشارة إلى أن الضغوط على سوق العمل آخذة في التراكم.
وحسب وكالة بلومبيرغ، اضطر الاقتصاديون ومديرو المحافظ الاستثمارية إلى جمع بيانات متفرقة من قواعد إلكترونية ومنشورات تقنية للوزارة لسد الفجوات الناتجة عن توقف التقارير الأسبوعية المعتمدة، وهو ما يعكس حجم تأثير الإغلاق على البنية الإحصائية التي تُبنى عليها توقعات السياسة النقدية. وتزامن ذلك مع وصول الطلبات المستمرة إلى 1.957 مليون طلب، وهو أعلى مستوى في أسابيع.
ويأتي هذا التوقف في وقت حساس للاقتصاد الأمريكي، الذي يعيش مرحلة تباطؤ نسبية في سوق العمل، مع تراجع وتيرة التوظيف وتزايد المخاوف من أن يؤدي الإغلاق الممتد إلى تشويه القراءات الشهرية لتقرير الوظائف، أحد أهم المؤشرات التي يتابعها الاحتياطي الفيدرالي. كما تسبب التعطيل في تأخير نشر بيانات حيوية أخرى، ما أجبر المحللين على الاعتماد على النماذج والتقديرات بدلاً من الأرقام الرسمية.
ورغم اعتماد مكتب إحصاءات العمل استثناءً خاصاً لإصدار تقرير التضخم (مؤشر أسعار المستهلك) لشهر سبتمبر، إلا أن بقية التقارير تبقى مجمدة، ما يعمّق حالة الضبابية التي تسيطر على الأسواق المالية ويزيد من صعوبة التنبؤ بالمسار الاقتصادي خلال الربع الأخير من العام.
بيانات البطالة بين الارتفاع والضبابية الإحصائية
أظهرت البيانات التاريخية التي نشرتها وزارة العمل عبر بوابة إلكترونية بديلة واطلع عليها بقش، ارتفاعَ طلبات إعانة البطالة الأولية إلى 232 ألف طلب، في وقت لا تزال فيه البيانات التفصيلية على مستوى الولايات غير متاحة بالشكل المعتاد. هذا الارتفاع جاء بعد أسابيع من غياب السجلات الرسمية، ما أجبر الاقتصاديين على استخدام أدوات التعديل الموسمي للتقدير بدل الاعتماد على الأرقام المباشرة.
وفي المقابل، ارتفعت الطلبات المستمرة إلى 1.957 مليون طلب، مقارنة بـ1.947 مليون في الأسبوع السابق، وهو ما يشير إلى أن عدداً أكبر من الأمريكيين ما زالوا يعتمدون على إعانات البطالة لفترات أطول، في دلالة على تباطؤ قدرات سوق العمل على امتصاص العاطلين. وتعد هذه القراءة إحدى الإشارات المهمة على احتمال دخول سوق التوظيف مرحلة إجهاد بعد سنوات من القوة.
غياب التقارير الرسمية الأسبوعية جعل من الصعب تحديد الاتجاه الحقيقي للبطالة. ففي الظروف العادية، تُعد بيانات طلبات الإعانة من أكثر المؤشرات اتساقاً في التوقيت والدقة، إلا أن الاعتماد على قواعد بيانات غير مكتملة أثار تساؤلات حول الهامش المحتمل للخطأ في هذه القراءات.
يرى خبراء أن استمرار الإغلاق قد يؤدي إلى حدوث تشوهات أكبر في البيانات، ما يضع صانعي السياسات النقدية أمام قرارات تعتمد على معلومات ناقصة، في وقت يحتاج فيه الاحتياطي الفيدرالي إلى صورة دقيقة لاتجاهات سوق العمل قبل تحديد الخطوات المقبلة.
الإغلاق الحكومي يشلّ التقارير… والأسواق تعتمد على مصادر بديلة
منذ بدء الإغلاق الحكومي مطلع أكتوبر، توقفت وزارة العمل الأمريكية عن نشر سلسلة من أهم تقاريرها الاقتصادية، وعلى رأسها التقرير الأسبوعي لإعانات البطالة، وتقرير الوظائف غير الزراعية، وبيانات الإنتاجية وفق تتبُّع بقش، وهو ما أدى إلى اتساع فجوة المعلومات لدى الأسواق والمؤسسات المالية. وقد اضطرت الوزارة لنشر جزء من البيانات عبر قنوات تقنية غير معتادة.
وأدى هذا التوقف إلى ارتفاع درجة الاعتماد على المصادر الخاصة، مثل تقارير الشركات المتخصصة في تتبع الوظائف وإحصاءات التوظيف عبر الإنترنت، وهو نهج لا يوفر دقة كافية مقارنة بالأرقام الحكومية. وقد استند الاقتصاديون إلى هذه البيانات البديلة لتعويض غياب التقارير الرسمية، فيما وصف خبراء البيانات الوضع بأنه “حالة عمياء” للاقتصاد.
ووفق بلومبيرغ، فإن التوقف امتد ليشمل تقارير اقتصادية حيوية، بينها تقرير الإنفاق الاستهلاكي، الذي يعد مرجعاً أساسياً لتقدير القوة الشرائية للأسر وتوقعات التضخم. هذا النقص في البيانات يزيد من الارتباك في الأسواق، التي تعتمد بشكل واسع على الأرقام الشهرية لاتخاذ قرارات استثمارية قصيرة الأجل.
ولا يقتصر التأثير على المستثمرين، إذ إن الشركات الأمريكية التي تعتمد على بيانات العمل لتحديد حجم التوظيف الموسمي تواجه حالياً فراغاً معلوماتياً يعرقل خططها. وفي ظل هذا الوضع، أصبحت المؤشرات البديلة ذات تأثير مبالغ فيه على الأسواق، رغم أنها أقل دقة بكثير من الإحصاءات الحكومية.
تداعيات مباشرة على السياسة النقدية والاقتصاد الكلي
يشكّل تعطل البيانات الرسمية تحدياً كبيراً أمام مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي يعتمد على مؤشرات سوق العمل بشكل مباشر لتحديد مسار أسعار الفائدة. فمع غياب تقرير الوظائف الشهري، يصبح من الصعب تقييم الاتجاه الحقيقي للتوظيف، ما قد يؤدي إلى قرارات أكثر تحفظاً أو تأجيلاً لأي خطوات نقدية جديدة.
كما يخلق هذا الغياب فجوة في التوقعات الاقتصادية، إذ تعتمد النماذج الاقتصادية على بيانات متسلسلة تُعدّ أساساً للتحليل البنيوي. وفي غياب هذه السلسلة الزمنية، ينخفض مستوى الثقة في جميع التوقعات المنشورة، بما فيها توقعات النمو والتضخم ومؤشرات الإنتاجية.
وتشير التقديرات التي تتبَّعها بقش إلى أن توقف التقارير قد يؤدي إلى تضارب كبير بين توقعات المؤسسات المالية، خصوصاً مع استمرار ارتفاع طلبات الإعانة، ما قد يُفهم على أنه بداية تراجع فعلي في قوة سوق العمل. ويرى بعض الاقتصاديين أن الإغلاق يضيف طبقة إضافية من عدم اليقين إلى اقتصاد يعاني أصلاً من تباطؤ في الاستثمار والتوظيف.
وتزداد المخاوف مع اقتراب نهاية العام المالي، إذ تعمد الشركات إلى مراجعة خططها بناء على توقعات الطلب، فيما قد يدفع الغموض القائم إلى خفض وتيرة التوظيف أو تأجيل خطط التوسع، ما ينعكس سلباً على أداء الاقتصاد في الربع الأخير من العام.
استثناء محدود… مؤشر التضخم يصدر لإنقاذ الضمان الاجتماعي
في خطوة استثنائية، قرر مكتب إحصاءات العمل إصدار تقرير مؤشر أسعار المستهلك لشهر سبتمبر في موعده، رغم الإغلاق الحكومي، وذلك لتمكين “إدارة الضمان الاجتماعي” من احتساب الزيادة السنوية في مخصصات تكلفة المعيشة لملايين المستفيدين. هذا الاستثناء أنقذ واحداً من أهم الإجراءات المرتبطة بدخل المواطنين، لكنه لم يعالج أزمة توقف بقية التقارير.
ويُعد مؤشر أسعار المستهلك أحد أهم تقارير التضخم التي يعتمد عليها الاحتياطي الفيدرالي لتحديد اتجاه أسعار الفائدة. ورغم صدوره، فإن بقية الأدوات التحليلية المرتبطة به، مثل بيانات الأجور وتكاليف التوظيف، ما زالت متوقفة، ما يقلل من دقة القراءة العامة للتضخم.
كما أن الاعتماد على تقرير وحيد لا يكفي لتشكيل صورة كاملة عن الضغوط السعرية في الاقتصاد، خاصة في ظل اضطراب سوق العمل وعدم وضوح اتجاهات الطلب على السلع والخدمات خلال فترة الإغلاق. هذا يجعل من الصعب إصدار تفسير متماسك لاتجاهات التضخم في المدى القصير.
ويرى محللون أن هذا الاستثناء يعكس حساسية النظام المالي والاجتماعي الأمريكي تجاه بيانات التضخم، لكنه في الوقت نفسه يسلط الضوء على هشاشة اعتماد الاقتصاد على عدد محدود من التقارير التي يمكن لتعطلها أن يشلّ عملية صنع القرار بالكامل.
توضح أزمة توقف تقارير البطالة والبيانات الاقتصادية أن الاقتصاد الأمريكي، رغم حجمه وقوته، يبقى معتمداً بشكل كبير على منظومة إحصائية دقيقة تُعد الأساس في اتخاذ القرارات النقدية والمالية. ومع غياب هذه المنظومة، تصبح الأسواق أكثر عرضة للتقلبات، ويزداد هامش الخطأ في التقديرات.
ويبدو أن الارتفاع الأخير في طلبات الإعانة قد يكون مجرد مؤشر أولي على تباطؤ أعمق في سوق العمل، خاصة مع تزايد أعداد الطلبات المستمرة، وهو ما قد يترك آثاراً واضحة على إنفاق المستهلكين وثقة المستثمرين خلال الأسابيع المقبلة.
ومع استمرار الإغلاق الحكومي، تتجه الولايات المتحدة إلى مرحلة من الضبابية الاقتصادية التي قد تدفع الشركات والمستثمرين إلى التحوط وتقليل المخاطر، فيما يتعين على السلطات الإسراع في إعادة تشغيل المنظومة الإحصائية لتجنب دخول الاقتصاد في حلقة من الاضطراب يصعب الخروج منها.


