شركات الشحن الكبرى تحدد موعد العودة إلى قناة السويس وسط قفزات غير مسبوقة في تكاليف النقل العالمي

أخبار الشحن | بقش
في لحظة يختلط فيها التشاؤم التقني مع حذر الشركات البحرية، يعود قطاع الشحن العالمي إلى واجهة المشهد الاقتصادي مع تصاعد الارتباك على خطوط التجارة الكبرى. فبين تصريحات حذرة من شركة هاباج لويد الألمانية – إحدى أكبر خمس شركات حاويات في العالم – وتحذيرات متسارعة من مؤسسات دولية بشأن قفزات هائلة في تكاليف النقل، يبدو أن سلاسل الإمداد تستعد لمرحلة انتقالية صعبة قد تمتد لأشهر.
وفي تصريح يعكس بدقة حالة الضبابية التجارية، قال الرئيس التنفيذي للشركة، رولف هابن يانسن، في اتصال عبر الإنترنت مع العملاء إن استئناف الإبحار عبر قناة السويس “لم يتحدد بعد”، وإن العودة ستكون “تدريجية” على الأرجح.
يأتي ذلك في وقت يقدّر فيه خبراء لوجستيون أن أي عودة كاملة للمسار قد تحتاج فترة انتقالية تتراوح بين 60 و90 يوماً لإعادة ضبط الجداول وتجنب ازدحام الموانئ وفق اطلاع مرصد “بقش”. وقد استند هذا التقدير إلى تقييمات أولية نقلتها وكالة رويترز، في إشارة أولى إلى حجم التعقيد الذي يواجه الموانئ العالمية.
غير أن الصورة الأوسع تبدو أكثر تعقيداً مع البيانات التي نشرتها بلومبيرغ، والتي عكست ارتفاعاً غير مسبوق في تكاليف الشحن البحري عبر معظم المسارات الدولية، بدءاً من الناقلات العملاقة للنفط وحتى السفن الصغيرة للسلع السائبة. وبينما كان يُفترض أن تنخفض الأسعار مع نهاية العام تبعاً للأنماط الموسمية، فإن المعطيات تشير إلى عكس ذلك تماماً: عالم بحري يُعاد تشكيله تحت ضغط الجغرافيا السياسية والعقوبات وحرب الممرات.
وفي ظل هذه التطورات، يتحول بحر التجارة الدولي إلى ما يشبه لوحة من التوترات المتداخلة، حيث تمتد آثار الحرب في غزة والتصعيد في البحر الأحمر والعقوبات المفروضة على شركات الطاقة الروسية إلى قلب حركة التجارة العالمية، دافعة التكاليف إلى مستويات لم تكن متوقعة حتى لدى أكثر المحللين تشاؤماً.
قناة السويس بين توقفٍ غير محدد وعودة تدريجية مؤلمة
لم تُقدّم هاباج لويد موعداً واضحاً لاستئناف الإبحار عبر قناة السويس، إلا أن دلالات التصريح تكشف عن إدراك عميق لحجم المخاطر القائمة في البحر الأحمر. فمن وجهة نظر الشركة، لا يتعلق الأمر بإعادة فتح ممر بحري فحسب، بل بضرورة إعادة تشغيل منظومة لوجستية مترابطة تضم موانئ ومرافئ ومخازن وجداول عبور دقيقة.
في الفترات السابقة، كانت قناة السويس تمثل شرياناً سريعاً يقلّل المسافة والزمن بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالإبحار حول رأس الرجاء الصالح حسب متابعات بقش. لكن الهجمات التي نفذتها جماعة أنصار الله (الحوثيون) على السفن في البحر الأحمر – كما رصدته مصادر رويترز وببلومبيرغ – دفعت عشرات الناقلات إلى تجنب المنطقة بالكامل.
ومن منظور الشركات البحرية، فإن العودة دون تقييم شامل للمخاطر لن تكون خياراً قابلاً للتطبيق. ولذلك، تتوقع خطوط الملاحة فترة “ضبط” تمتد بين شهرين إلى ثلاثة أشهر، وهي مدة تشمل إعادة توزيع أطقم العمل، وإعادة تنظيم مواعيد الرسو، وتفادي التكدس الذي قد يصيب الموانئ بحالة شلل.
كما أن شركات الحاويات باتت تتحرك تحت ضغط مزدوج: خسائر تتزايد كلما طال الالتفاف حول أفريقيا، وخطر إدخال السفن إلى منطقة اشتباك غير مستقر. ويشير خبراء لوجستيون إلى أن استمرار هذا الوضع قد يعيد رسم خريطة الشحن العالمي بصورة دائمة، إذا تبين للشركات أن البدائل المكلفة أقل خطراً من العودة عبر البحر الأحمر.
قفزة صادمة في تكاليف الشحن… النفط يتصدر الارتفاعات
بحسب البيانات التي نقلتها بلومبيرغ، حققت الأرباح اليومية للشحن النفطي على المسارات الرئيسية ارتفاعاً مذهلاً بلغ 467%، وهو رقم يكشف عن حجم الاضطراب الذي تشهده سوق الناقلات. تزامن هذا الارتفاع مع زيادة إنتاج الشرق الأوسط وتوسع الطلب الآسيوي على الخام، إضافة إلى العقوبات الأمريكية على شركات النفط الروسية الكبرى، التي أدت بدورها إلى تحويل مسارات الشحن وإطالة زمن الرحلات.
أما سفن الغاز الطبيعي المسال، فقد شهدت هي الأخرى مستويات هي الأعلى منذ عامين، مع تزايد الطلب الأوروبي على الغاز الأمريكي في ظل شتاء متقلب، بينما التهمت المشاريع الجديدة في الولايات المتحدة وكندا جزءاً كبيراً من الأسطول المتاح لنقل الغاز.
وسفن السلع السائبة – التي تحمل الحبوب والفحم وخام الحديد – سجلت قفزات كبيرة وصلت إلى أعلى مستوى في 20 شهراً. ويعود ذلك لعدة أسباب متداخلة: بدء تشغيل مشروع ضخم لخام الحديد في غينيا، وتأخيرات حادة في الموانئ الصينية بسبب سوء الأحوال الجوية، وارتفاع الطلب على الفحم في دول آسيوية تسعى لتأمين الطاقة في وقت تتذبذب فيه أسعار الوقود.
ومع ذلك، فإن اللافت هو أن هذه القفزة تأتي في فترة عادة ما تشهد انخفاضاً موسمياً في الأسعار. وهذا يعني أن الضغوط الجيوسياسية – وليس السوق الطبيعية – هي التي تعيد توجيه أسعار النقل.
البحر الأحمر… نقطة الاشتعال التي تضرب سلسلة الإمدادات العالمية
يمثل البحر الأحمر اليوم أحد أكثر النقاط سخونة في التجارة البحرية، حيث أدت الهجمات الحوثية على السفن المرتبطة بإسرائيل أو الشركات المتعاملة معها إلى اضطراب غير مسبوق في المسار الذي يربط آسيا بأوروبا.
ونتيجة لهذا الوضع، اختارت العديد من السفن الالتفاف حول طريق أطول يمر عبر رأس الرجاء الصالح، وهو ما ضاعف ما يسمى بـ”أميال الحمولة” – وهو مؤشر يقيس الطلب عبر حجم الشحنة والمسافة المقطوعة. وكلما زادت المسافة زاد الطلب على السفن، وبالتالي ارتفعت الأسعار.
لكن التكلفة تتجاوز المال. فالإبحار حول أفريقيا يضيف ما بين 10 إلى 14 يوماً على زمن الرحلة حسب تقارير بقش، ما يؤدي إلى نقص فعلي في المعروض من السفن، حتى دون أي زيادة في الطلب. ومن هنا، يتوقع التنفيذيون في القطاع استمرار شح المعروض حتى مطلع العام المقبل على الأقل، كما ذكرت بلومبيرغ.
وبحسب محللين، تتبَّع بقش تقديراتهم، في شركات الشحن، فإن لكل تأخير أثرٌ تراكمي: تأخر رسوّ سفينة يعني تأخر شحن أخرى، ثم تأخر تفريغ بضائع في موانئ متخمة أصلاً، ما يتسبب في سلسلة اختناقات تمتد من آسيا إلى أوروبا وربما الولايات المتحدة.
ولا يستبعد بعض الخبراء أن يصبح الالتفاف حول أفريقيا مساراً شبه دائم، إذا لم تُعالج المخاطر الأمنية في البحر الأحمر.
أرباح ضخمة ومخاطر أكبر
رغم أن شركات الشحن تحقق اليوم أرباحاً قوية بعد سنوات من الركود، إلا أن كبار التنفيذيين يظهرون توجساً واضحاً من ضخ استثمارات جديدة في الأساطيل أو تحديث السفن. السبب بسيط: لا أحد يعرف ما إذا كانت الطفرة الحالية ستستمر أم ستتلاشى عند أول انفراج سياسي أو عند إعادة فتح قناة السويس بشكل كامل.
فعلى سبيل المثال، تعترف شركات كبرى مثل “فرونت لاين مانجمنت” بأنها تعيش “سوقاً شحيحة على الطريقة التقليدية”، حيث الطلب أعلى بكثير من العرض، لكن هذا الشح مصحوب بقلق شديد. ففي حال حدوث تسوية في البحر الأحمر أو إعادة هيكلة للمسارات النفطية الروسية، قد تتراجع الأسعار فجأة، تاركة الشركات التي استثمرت حديثاً أمام مخاطر مالية كبيرة.
كما أن أسعار بناء السفن الجديدة ارتفعت بشكل لافت خلال السنوات الماضية، بينما تزدحم أحواض التصنيع في كوريا الجنوبية والصين بطلبات تستغرق سنوات. هذا يعني أن أي استثمار ضخم اليوم قد لا يترجم إلى سفينة جاهزة قبل 2028 أو 2029، وهي فترة طويلة جداً في سوق يتغير كل بضعة أسابيع.
وفي ظل هذا الارتباك، تبحث الشركات عن استراتيجيات قصيرة المدى، مثل اختيار الرحلات الأطول لتحقيق أرباح أكبر، أو تشغيل ناقلتين صغيرتين بدلاً من واحدة كبيرة، كما فعلت مصافي هندية للتعامل مع التأخيرات المتكررة.
تقدم تصريحات هاباج لويد وتحليلات بلومبيرغ صورة متماسكة لسوق شحن يعيش تحت ضغط مركّب، حيث تتداخل الجغرافيا السياسية مع قيود العرض وتغير الأنماط التجارية لتخلق واقعاً جديداً، قد يستمر لأشهر وربما لسنوات.
في هذا الواقع، تبدو قناة السويس – التي لطالما كانت مرآة لتوازنات التجارة العالمية – ساحة اختبار لمدى قدرة الشركات على التأقلم مع بيئة متقلبة. وقد تكون العودة التدريجية للممر مجرد بداية لمرحلة إعادة تقييم كاملة لمخاطر المنطقة.
أما تكاليف الشحن، فمن الواضح أنها لم تعد نتاجاً لسوق العرض والطلب فقط، بل لمسارات جيوسياسية تتغير بسرعة يصعب على نماذج التسعير التقليدية مواكبتها. وهذا يعني أن عالم الشحن بات أقرب إلى “اقتصاد طوارئ” منه إلى قطاع يعمل وفق دورات موسمية.
وفي ضوء هذه المعطيات، تبدو سلاسل الإمداد العالمية أمام مفترق طرق: إما إعادة هيكلة جذرية تخلق مسارات بديلة طويلة لكنها مستقرة، أو العودة إلى ممرات مختصرة محفوفة بالمخاطر. وبين هذا وذاك، تقف الشركات البحرية في وضع حرج بين أرباح ضخمة اليوم ومخاطر أكبر غداً.


