قوة “استقرار” أم بوابة وصاية طويلة؟.. واشنطن تضغط لتشكيل جيش من 10 آلاف جندي في غزة

تقارير | بقش
تدفع الولايات المتحدة بقوة نحو تشكيل “قوة استقرار دولية” لقطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب، ضمن خطة تقودها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مسعى يُقدَّم على أنه خطوة لفرض الأمن وتهيئة الأرض لمرحلة انتقالية جديدة، لكنه يصطدم حتى الآن بفتور دولي واضح وغياب أي التزام فعلي بالمشاركة.
وحسب ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أمريكيين، تستهدف الخطة قوة متعددة الجنسيات قوامها نحو 10 آلاف جندي، تعمل تحت قيادة جنرال أمريكي، مع اعتراف داخل الإدارة بأن جاهزية القوة قد تستغرق معظم العام المقبل، ما يضع “الاستقرار” المقترح أمام عامل الوقت وتعقيدات الواقع الميداني.
التحفظ الدولي لا يبدو تقنياً بقدر ما هو سياسي وميداني، إذ تخشى دول كثيرة أن تتوسع المهمة سريعاً لتتجاوز تأمين المساعدات وحفظ الأمن إلى نزع سلاح حركة “حماس” أو الانخراط في تماس قتالي مباشر، وهو ما قد يحوّل القوة من بعثة “تثبيت” إلى طرف في نزاع مفتوح.
وفي الخلفية، تبرز مفارقة أكثر قتامة، فغزة المدمرة تحتاج بيئة إنسانية وإعادة إعمار هائلة تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات، لكن إدخال قوة عسكرية قبل حسم طبيعة السلطة المدنية وإطار الشرعية قد يفتح الباب لوصاية طويلة الأمد، ويهدد بإدامة الأزمة بدل إنهائها.
ملامح الخطة الأمريكية… قوة تحت قيادة جنرال أمريكي
تقوم الفكرة، وفق اطلاع بقش على ما تسرّب عن مسؤولين أمريكيين، على إنشاء قوة متعددة الجنسيات بقيادة جنرال أمريكي، هدفها المعلن “تحقيق الاستقرار” في قطاع غزة بعد الحرب، على أن يتم تشكيلها تدريجياً نظراً لصعوبة حشد قوات كبيرة بسرعة في ساحة شديدة الحساسية.
داخل الإدارة الأمريكية نفسها، لا يبدو أن الرقم النهائي لحجم القوة محسوم، إذ يأمل بعض المسؤولين في الحصول على تعهدات مبدئية بنشر نحو خمسة آلاف جندي مطلع العام المقبل، على أن يرتفع العدد إلى عشرة آلاف بحلول نهاية عام 2026، بينما يرجّح آخرون أن لا يتجاوز الحجم ثمانية آلاف عنصر.
وتؤكد الرواية الأمريكية أن الجنود الأمريكيين لن يشاركوا داخل غزة بشكل مباشر، رغم وجود تمركز لبعضهم في مراكز تنسيق داخل إسرائيل، في محاولة لطمأنة الداخل الأمريكي وتقليل الكلفة السياسية، لكنها لا تبدو كافية لطمأنة الدول المرشحة للمشاركة.
ومن المتوقع أن تعيّن إدارة ترامب القائد العسكري للقوة مطلع العام المقبل، في خطوة تعكس انتقال الخطة من الطرح السياسي إلى الإعداد العملياتي، حتى في ظل غياب توافق دولي واضح حول طبيعة المهمة وحدودها.
لماذا يتردد العالم؟ “الاستقرار” قد يتحول إلى “نزع سلاح”
السبب الأبرز للتردد الدولي يتمثل في الخشية من توسع مهمة القوة لتشمل نزع سلاح حركة “حماس”، وهو ملف شديد الحساسية قد يضع أي قوة أجنبية في مواجهة مباشرة مع فصيل مسلح داخل مجتمع منكوب وغاضب.
وتشير المعطيات إلى أن دولتين فقط، هما أذربيجان وإندونيسيا، تقتربان من فكرة إرسال قوات، لكنهما تفضلان تفويضاً محدوداً لا يورطهما في عمليات قتالية أو اشتباكات مباشرة، ما يعكس سقفاً منخفضاً للمشاركة مقارنة بتطلعات واشنطن.
وتبرز في النقاشات الدولية مقاربة ترى أن نزع السلاح لا يمكن أن يكون نقطة البداية، وأن الأولوية يجب أن تكون للفصل بين الأطراف وخلق مسار سياسي قابل للحياة، محذّرة من أن أي قوة تولد بتفويض ملتبس ستفشل منذ لحظتها الأولى.
في المقابل، سبق أن وصف نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس هذه القوة بأنها عنصر أساسي في عملية نزع سلاح “حماس”، مع إقراره بأن المهمة ستستغرق وقتاً وستعتمد بدرجة كبيرة على تركيبة القوة نفسها وفق مراجعة بقش، وهو تصريح يعمّق شكوك الدول المترددة.
طلبت وزارة الخارجية الأمريكية رسمياً من أكثر من 70 دولة تقديم مساهمات عسكرية أو مالية للقوة المقترحة، شملت دولاً حليفة كبرى وأخرى أصغر، في محاولة لتوسيع قاعدة الدعم وتقليل العبء السياسي والأمني.
وحسب مسؤولين أمريكيين، أبدت 19 دولة اهتمامها بالمساهمة بقوات أو بتقديم أشكال دعم أخرى مثل المعدات أو النقل أو الدعم اللوجستي، غير أن هذا الاهتمام لا يزال في إطار النوايا، ولم يتحول إلى التزامات واضحة بإرسال جنود إلى غزة.
ومن المنتظر أن يشارك ممثلو أكثر من 25 دولة في اجتماع يُعقد في قطر لبحث تركيبة القوة ونطاق مهمتها، في خطوة تهدف إلى بلورة تصور عملي مشترك، لكن التجارب السابقة تشير إلى أن مثل هذه الاجتماعات كثيراً ما تنتج تفاهمات نظرية أكثر من التزامات ميدانية.
وتبقى المعضلة الأساسية أن أي قوة متعددة الجنسيات في غزة ستعمل في بيئة سياسية وأمنية غير محسومة، ما يجعل كثيراً من الدول تفضّل الانتظار أو الاكتفاء بالدعم غير العسكري.
خرائط السيطرة… مناطق ملونة وحدود جديدة
تتضمن التصورات المطروحة وفق قراءة بقش تقسيم غزة إلى مناطق نفوذ، تعمل فيها القوة الدولية داخل ما يُعرف بـ“المنطقة الخضراء” شرق القطاع، بينما يسيطر الجيش الإسرائيلي على “الخط الأصفر” الذي يقسم غزة تقريباً من الشمال إلى الجنوب، وتبقى حركة “حماس” محصورة في شريط ساحلي ضيق.
غير أن مسؤولين أمريكيين لم يخفوا رغبتهم في توسيع نطاق مهمة القوة لتشمل مناطق أخرى، محذرين من أن أي تأخير في نزع سلاح “حماس” قد يدفع إسرائيل إلى البقاء في غزة وعدم الانسحاب الكامل.
ويزيد المشهد تعقيداً تصريح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بأن القوات قد لا تغادر “الخط الأصفر” أبداً، واصفاً إياه بأنه قد يتحول إلى “حدود جديدة دائمة”، وهو ما يثير مخاوف من تكريس واقع تقسيم ميداني طويل الأمد.
في المقابل، تفيد معطيات بأن “حماس” أبدت في محادثات غير علنية استعدادها للتخلي عن الأسلحة الثقيلة، لكنها تشدد علناً على ربط أي نقاش حول السلاح بالتزامات سياسية تتعلق بإقامة دولة فلسطينية، ما يجعل الحل الأمني وحده غير قابل للاستدامة.
تكشف فكرة “قوة الاستقرار” عن مأزق مرحلة ما بعد الحرب في غزة، حيث تسعى القوى الكبرى إلى فرض تهدئة أمنية دون حسم جذور الصراع السياسية، بينما تتجنب الدول الأخرى تحمّل كلفة الانخراط المباشر. والسيناريو الأكثر خطورة يتمثل في تحوّل الترتيبات الأمنية المقترحة إلى واقع دائم، تُدار فيه غزة عبر خطوط نفوذ ومناطق عازلة، في ظل غياب سلطة فلسطينية متفق عليها ومسار سياسي واضح.
وفي قطاع يحتاج إلى إعادة إعمار شاملة واستعادة حياة طبيعية لملايين المدنيين، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستكون “قوة الاستقرار” جسراً نحو حل حقيقي، أم مجرد أداة لتجميد الصراع وتأجيل انفجاره إلى جولة أكثر تعقيداً في المستقبل؟.


